الخطوة كانت منتظرة في الحد الأدنى منذ 30 آذار/مارس، وصدور بيان قيادة الجيش الذي وجه تهمة صريحة بالتآمر للثلاثي: السعيد بوتفليقة، والفريق المتقاعد توفيق مدين، وخلفه على رأس “الدي إير إس” اللواء طرطاق، وتجديد التحذير للمجموعة على لسان الفريق قايد صالح اختص بالذكر المدير السابق لمديرية الأمن والاستعلامات، لم يلتفت إليها على ما يبدو المعني بالتحذير، لتنتهي بقرار الاعتقال، وأعلن أمس الأول، إحالة الثلاثة على القضاء العسكري ربما بتهمة قد تكيف تحت عنوان “التآمر” أو حتى الخيانة العظمى.
ومع أن شهادة الرئيس الأسبق ليامين زروال كانت كافية لتحريك التحقيق، إلا أن مؤسسة
الجيش ربما كانت لها حسابات أخرى أو إكراهات داخلية وخارجية لا نعلمها، كانت
تمنعها مؤقتا من المجازفة بهذه الخطوة الكبيرة قبل استكمال ملفات التحقيق، وتجميع
الأدلة التي تسمح بإحالة المتهمين الثلاثة على القضاء العسكري، بالنظر إلى ما تتمتع
به المجموعة من أذرع نشطة داخل البلاد في كثير من مؤسسات الدولة، وما تتمتع به
من دعم خارجي على الأقل من جهة فرنسا، وربما من دوائر استخباراتية عالمية أخرى.
وبقدر
ما كان ترحيل الرئيس السابق ميسرا، بدفعه إلى الاستقالة تحت ضغط الشارع، فإن
الاقتراب من رأس ما وصف بـ “العصابة” لم يكن باليسير مع القوة التي ظهرت بها الشبكة
المنسوبة للفريق توفيق في اختراق الحراك، ومحاولة توجيهه نحو نسف جميع المبادرات
التي صدرت عن مؤسسة الجيش، ومع انكشاف حالة من “التماهي” والتناغم بينه وبين جزء
من الطبقة السياسية في أحزاب الموالاة والمعارضة، ومع شريحة واسعة من تنظيمات
المجتمع المدني التي تخلقت تحت الرعاية السامية لدولة الدي إير إيس” في ربع قرن.
الاقتراب
من رأس ” العصابة” احتاج إلى خطوات مدروسة متدرجة، لعل أهمها كان البدء باستهداف
مصدر قوتها المالية في أهم رموز الأوليغارك (حداد والأخوة كونينينف) بالنسبة
للسعيد بوتفليقة واللواء طرطاغ و(ربراب) المحسوب على الفريق توفيق، مع وضع طائفة
من رموز النظام السابق على مسار الملاحقة القضائية (أويحيى، لوكال، ولد عباس
اللواء الهامل وآخرين مثل ملزي: العلبة السوداء لرموز النظام بإقامة الدولة بنادي
الصنوبر)، فيما شهدت مؤسسة رئاسة الجمهورية عملية تطهير واسعة، توسعت لتشمل طائفة
من المسؤولين الكبار على رأس مؤسسات حساسة مثل الجمارك، وسوناطراك ومؤسسات أخرى
ضمن قائمة ما تزال مفتوحة.
قرار
توقيف الثلاثي يكون قد قطع رأس الأخطبوط، المتهم في المقام الأول بالتآمر على
الحراك ومحاولة خلط أوراقه، والدفع به نحو طرق مسدودة، قد تقوده إلى الدخول في
صدام مع مؤسسة الجيش والأجهزة الأمنية، وقد يكون مؤشرا على دخول عملية التطهير
مرحلة الحسم باستهداف ساحق لجيوب “الممانعة” من النظام السابق، لم يبق لها هذا
القرار خيارا آخر غير الاستسلام للأمر الواقع ومحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه، أو
الخروج للعلن في ما يشبه “الهروب إلى الأمام”، بمحاولة توجيه الحراك خارج السلمية
التي سمحت له حتى الآن بتحقيق معظم مطالبه، وفوق ما كان يستشرف من أسابيعه الأولى.
القرار
سوف يحرك لا محالة القوى الدولية الداعمة للمجموعة على رأسها فرنسا، التي تعلم أن
التسليم بمصير “العصابة” يعني ضياع آخر مربع للنفوذ الفرنسي في قلب السلطة، سيتبعه
بالضرورة تعريض بقية مواقع نفوذها الثقافية والإعلامية للتهديد وربما للاستئصال،
ناهيك عن شبكاتها النائمة داخل الإدارات الكبرى المتحكمة في توزيع ريع الصفقات
العمومية.
وقبل
أن تصدم فرنسا وامتداداتها في مؤسسات الدولة وفي المجتمع، كانت قد صدمت بإحكام
مؤسسة الجيش غلق منافذ الرؤية عنها، باستعادة مؤسسة الجيش لمديريتي الأمن الداخل
والأمن الخارجي، بكل ما يعني ذلك من فرص استعادة ملفات كانت بعيدة عن سيطرة أركان
الجيش، سوف تتحول حتما إلى أدوات ضغط على ما بقي من أذرع حزب فرنسا الذي بناه
الجنرال بلخير، وبالضرورة إلى أدوات ضغط حين تستقر الأمور، وتضطر فرنسا إلى إعادة
بناء جسور التواصل مع القيادة الجزائرية في أكثر الملفات الخلافية بين الدولتين، على رأسها الوضع في الإقليم (ملفات الصحراء الغربية، ومالي، وليبيا).
وقبل
أيام كانت آخر محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، بـ “تشجيع” الجنرال خالد نزار على
تقديم “عرض خدمة”، كان يريد مقايضة رأس الفريق توفيق برأس السعيد بوتفليقة، على
اعتبار أن الوارث الأصلي لقيادة “حزب فرنسا” بعد رحيل الجنرال بلخير هو الفريق
توفيق، وأن بداية تفكيك شبكته الواسعة المخترقة لمعظم المؤسسات، ربما يكون قد رجح
خيار تشجيع السعيد بوتفليقة على الاستعانة بالفريق المتقاعد، وببعض الضباط
المتقاعدين من الحقبة الاستئصالية (نزار وبن حديد) ومحاولة استدراج الرئيس ليامين
زروال ليس لإنقاذ آل بوتفليقة، ولا حتى زمرة الأوليغارك، بقدر ما كان الهدف الأول
إنقاذ “الشبكة الأم”، التي تدين بالولاء للفريق توفيق ولم تختف بعد رحيله.
بقي أن قرار توقيف رأس “العصاية”
سوف يكون له أثر على صعيد ما يقرأه الشارع سلبا أو إيجابا، في خطوة كبيرة حاسمة
وقعت نهاية الطغمة المختطفة للقرار برئاسة الجمهورية، تفترض أن تحمل الشارع على
مراجعة الموقف من المبادرات الصادرة حتى الآن عن مؤسسة الجيش، والتفاعل معها بقدر
من الجدية والمسؤولية، ليس عبر خطاب أخرق مستنزف متوحل في شعار غامض، مضلل، حرر له
ولغيره من الثورات الموجهة في أوروبا الشرقية وفي الربيع العربي تحت أكثر من صيغة
لـ “يرحلوا قاع”، بل عبر توجيه حراكه نحو إنتاج الحلول وحتى البدائل، ما دامت مؤسسة
الجيش قد تركت الباب مفتوحا أمام الاقتراحات البناءة، سواء من جهة الطبقة
السياسية، أو من جهة من يثق فيهم الشارع لتمثيله في حوار بناء، يعيد البلد إلى
العمل تحت إدارة مؤسسات دستورية منتخبة.
عن صحيفة الشروق الجزائرية