إننا نمر اليوم في مرحلة تاريخية تشهد التحولات الأكثر كثافة في تاريخ البشرية، ويزداد فيها زخم التواصل والتفاعل بين المجتمعات بصورة فائقة، ويمكن فيها تفعيل الفرص والمخاطر الكبيرة بنفس السوية وفي وقت واحد.
قيمة لحظة تاريخية معينة تكمن في زخم تدفق الأحداث فيها.
في الفترة القادمة، سوف يظهر التمايز الأساسي بين أولئك الذين يديرون هذا الزخم من خلال فهم قيمة اللحظة التاريخية، وأولئك الذين ينجرون داخل هذا التدفق عبر الابتعاد عن القيمة الحقيقية للحظة التاريخية.
إن البلدان التي تحدد رؤية تتفق مع طبيعة اللحظة التاريخية، من خلال نهج متماسك يتجاوز التوترات الداخلية، ستكتسب قوة ستحدد مستقبلها لعقود أو حتى لقرون قادمة، بينما البلدان التي تستهلك طاقاتها في توترات داخلية مفرغة، ستمثل فيما بعد الفئات السلبية في مسيرة التاريخ.
والأزمات الأخيرة التي تجري على المستويات الوطنية والإقليمية والدولية، إنما هي آلام الولادة من رحم التاريخ.
في السنوات الأولى، ومع قدوم حزبنا إلى السلطة برؤية تفهم متطلبات المرحلة الزمنية التي كنا نمر بها وقيم الأمة، أظهر بلدنا أداءً التقط فيه زخم التدفق التاريخي بعد أن عشنا تحولًا ديمقراطيًا عزز ثقتنا بأنفسنا، ومخططًا لتنمية اقتصادية صاعدة، وتأثيرًا دوليًا يتوسع في أرجاء الأرض.
لكن التوترات الداخلية التي بدأت مع أحداث غيزي عام 2013، واستمرت مع مؤامرات 17 / 25 ديسمبر، ووصلت إلى مستوى خطير مع عمليات الأنفاق، وبلغت ذروتها مع محاولة الانقلاب الغادر في 15 يوليو، قامت بجر بلادنا من موقف يتمتع برؤية وتقدمية إلى موقف متراجع ودفاعي.
وحزبنا الذي يعد اللاعب السياسي الوحيد الذي يمكنه إدارة هذه المرحلة برمتها، عندما بدأ باستهلاك طاقته في مشاكله الداخلية، بسبب تحريضات وتلاعبات تتجاهل الإرادة الوطنية من قبل بعض البؤر التي كان لها دور رائد في عمليات التآمر هذه، اهتز انسجامنا الداخلي وضعفت قدرتنا على إنتاج وتطبيق الرؤى الاستراتيجية.
نحن اليوم نقف على عتبة تاريخية حاسمة. لقد أعربت عن تقديراتي وهواجسي بشأن بلدنا وحزبنا في المراحل الحرجة التي جرت خلال السنوات الثلاث الماضية، مباشرة إلى رئيسنا، شفهياً وخطياً، لكنني اخترت ألا أشاركها مع الرأي العام حتى لا تتحول إلى ذرائع لنقاشات سيئة النوايا من قبل أطراف مختلفة.
إلا أن الوضع الاجتماعي والسياسي الذي برز مع انتخابات 31 مارس والأحداث اللاحقة، خلق حاجة لإجراء محاسبة مفتوحة وشفافة وحكيمة أمام الرأي العام فيما يتعلق بمستقبل حزبنا وبلدنا. وأنا اعتبر تبادل وجهات نظري مع أمتنا العزيزة بمثابة مهمة لا مفر منها عشية الذكرى السنوية الـ 99 لتأسيس برلماننا، وهذا مرتبط بالوعي بمسؤوليتي كثاني رئيس عام لحزب العدالة والتنمية، وآخر رئيس وزراء منتخب من قبل الشعب لبلدنا.
لقد أظهرت انتخابات آذار/مارس نتائج مهمة، نحتاج إلى دراستها بحكمة وعقلانية، وقد وجهت رسائل مهمة بالنسبة لمستقبل حزبنا وبلدنا للنظر فيها، ومن الأهمية بمكان فهم هذه الرسائل وجعلها ذات أولوية.
وإذا لم يتم استخلاص الرسائل المهمة من التغييرات التي ظهرت في توجهات شعبنا، واتخاذ الخطوات الواجب القيام بها بحزم، فإن مرحلة صعبة تنتظرنا نحن كحزب العدالة والتنمية، وتنتظر بلدنا تركيا أيضاً.
في هذا السياق، يتعين علينا مواجهة حقيقة التراجع في الدعم الشعبي لحزبنا وتقييم ذلك بطريقة حكيمة، وخاصة فيما يتعلق بنتائج رئاسات بلديات أنقرة وإسطنبول، والتي تمثل رموزاً مهمة لحركتنا في التكتل والمضي إلى السلطة، ولطالما كانت تحت إدارة كوادرنا منذ ربع قرن.
بادئ ذي بدء، علينا أن نتذكر مرة أخرى أن حزب العدالة والتنمية ليس كيانًا سياسيًا ظهر في ظل شروط سياسية ظرفية. بل على العكس،
إنه نتاج التقاء وتراكم جهد مشترك تبلور من خلال تجاوز التحديات، وعرق جبين وأفكار أجيال متتالية من الأمة عبر التاريخ.
ولهذا السبب، لا يعتمد ويجب ألا يعتمد سبب وجوده ومستقبله على مصير وتقدير أي شخص فانٍ أو مجموعة اجتماعية محدودة أو مجموعة ذات مصلحة اقتصادية أو حتى جيل واحد.
وبالنظر بعمق نحو الماضي فإن هذه الحركة شُيّدت بجهود الأجيال السابقة، وعلى آمال الأجيال القادمة في المستقبل، فلا ينبغي التضحية بها من أجل النفوس المغرورة والحسابات الضيقة
إننا مدينون كثيرًا للأجيال الماضية التي أسست الأرضية التي بني عليها حزبنا، وإلى الأبطال المجهولين الذين يحملون حزبنا على الأكتاف اليوم.
لقد تشرفت برؤية عمق هذا الإرث الكبير في حملتي للانتخابات العامة في 7 يونيو و1 نوفمبر 2015 على وجوه هؤلاء الأبطال المجهولين المخلصين.
نساء “بيرغاما” في “إزمير” اللاتي يملأن الساحة لساعات بحماس تحت المطر حتى في هذه اللحظة، أهالي “ديار بكر” الأبطال الذين احتضنوني واستقبلوني بحشد جماهيري أمام مسجد “أولو” في وقت كان فيه كفاحنا مستمرًا ضد الأنفاق التي حفرتها المنظمة الإرهابية الغادرة في “سور”، أعمامنا المسنون في إسطنبول الذي رفعوا أيديهم في المساء للدعاء في تجمعنا الجماهيري في “سنجاق تبه”، أهالي “طرابزون” المفعمة قلوبهم بالمحبة والذين نقلوا حماسة البحر الأسود إلى الساحة في عتمة الليل،
وأهالي “قونية” الأعزاء الذين ودعوني إلى أنقرة بوقار، سواء بوقت الحزن في 7 يونيو أو بوقت الفرح في 1 نوفمبر، وأبناء بلدي الأوفياء الذين احتضنوني في 81 ولاية، جميعهم حاضرون أمام عيوني.
في كل إنجاز ومنصب وموقع، نحن مدينون للأجيال السابقة التي ضحت وتحملت شتى أنواع الصعوبات لكي تفتح أمامنا الطريق، ولهؤلاء الأبطال المجهولين الذين يعملون مضحين بأنفسهم في كل عملية انتخابات، ولأجهزتنا التي تعمل على تنظيمهم بكل حماس.
حتى عندما أكتب هذه السطور، أشعر بثقل هذه المسؤولية الكبيرة على كتفي وهو شعور نابع من الشعور بأني مدين لهذه الأجيال. وفي هذا السياق، أقدم استنتاجاتي حول مستقبل حزبنا وبلدنا أمام ضمير أمتنا العميق.
هناك خمسة عناصر أساسية تجعل الحركات والأحزاب السياسية الفاعل المهيمن على مشهد التاريخ: (i) منظومة مبادئ وقيم داخلية متناسقة (ii) خطاب متوافق مع روح منظومة القيم هذه (iii) شبكة من العلاقات الاجتماعية منفتحة على جميع شرائح المجتمع، (iv) هيكل تنظيمي قوي يدير هذه الشبكة بفعالية، (v) فكر حر وعقل تشاركي يتيحان إمكانية تطوير سياسات متوافقة مع روح العصر.
سر تميز حزبنا عن الأحزاب الأخرى طوال تاريخنا السياسي والسبب الأساسي لبقائنا في السلطة لفترة طويلة، مخفي في هذه الميزات، ولكن الأحداث التي حدثت في السنوات الأخيرة أظهرت أن هناك ضعفاً خطيراً بالالتزام بهذه العناصر الأساسية وهو يتوسع، والأخطاء والفوضى الملحوظة من كل جانب خلال عملية الانتخابات المحلية الأخيرة وبعدها، هي في الواقع ليست إلا انعكاسات لهذا الخلل.
إن العمل السياسي يقوم على منظومة أخلاقية في الأساس. وتاريخياً كان من أهم الأسس التي قام عليها حزبنا، لكنها تضررت بسبب الخطاب الذي أصبح قائماً على الشعارات وإظهار التمسك بالقيم والمبادئ والتصرف بعكس ذلك، ما جعل المواطنين يفقدون الثقة في خطابنا.
هناك قضايا يتعين الحديث عنها بشكل صريح، الابتعاد عن لغة التواضع واستبدالها بلغة متكبرة أنانية، والخوض في منافسات من أجل إطلاق أسماء حتى السياسيين الذين هم في أصغر المراتب على الشوارع والمدارس والمباني، فضلاً عن التعامل بتعالٍ، والإصرار على الظهور الدائم بلا انقطاع، وتوسيع الهوة بين الوعود الخطابية وحقيقة الأوضاع، واستغلال أمور مقدسة (نابعة من الدين) من أجل تحقيق مكاسب سياسية.
لقد نسي البعض أن العمل السياسي وقيادة البلاد هي منوطة بشخص من يتولى القيادة دون تدخل من عائلته أو الدائرة المحيطة به في صنع القرار. كما أن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وتجييش من يقومون من خلالها بترويج الافتراءات، وتشويه أي منافس على الساحة، ومحو اعتبار مَن كانوا رفاق كفاح في مسيرة الحزب هو بمثابة انعدام الوفاء لمن بذلوا الكثير من أجل نجاح الحزب.
لقد أثّر الابتعاد الحاصل عن القيم والمبادئ الأساسية بشكل مباشر على خطابنا السياسي أيضًا. وفي الأعوام الأخيرة حلّ خطاب بصبغة دولتية وأمنية وقائم على الأمر الواقع وعلى هواجس البقاء المطلقة بدلًا من خطاب حزبنا السياسي الواثق بنفسه ومستقبله، والذي يركز على الإنسان، ويقوم على حقوق الإنسان والحرية والإصلاح الشامل.
الدولة هي تجسيد للإرادة المشتركة للأشخاص الذين يشكلون الأمة، ولا يمكنهم البقاء بدون هذه الإرادة. الدولة كيان سياسي يوجد بإرادة الأفراد الذين يشكلون المجتمع، وليس من خارجه، وهي آلية إدارية يمكن أن تدوم ما دامت تتمتع بشرعية من المجتمع. ومن خلال إعادة تفسير مبدأ “الشيخ إدبالي”، يمكننا القول إنه لا يمكن لأي دولة أن تكون باقية إذا كانت تهمل الإنسان وحقوقه الأساسية أو تنقصها إلى منصب ثانوي.
يلاحظ حدوث ضيق كبير جدًا كذلك في شبكة الاندماج والعلاقات الاجتماعية التي كانت تضع حزبنا في المرتبة الأولى في عموم تركيا. تظهر نتائج الانتخابات الأخيرة أننا حتى مع “تحالف الشعب”، ينحصر نشاطنا السياسي في وسط الأناضول والبحر الأسود مبتعدة عن الأجزاء الساحلية.
وحتى وسط “وسط الأناضول”، هناك تغير حاصل ضدنا. سيتحول هذا التراجع في الدعم على المستوى الجغرافي والاجتماعي، إلى فجوة سياسية إذا لم تعالج أسبابه سواء من حيث الخطاب أو الأفعال.
إن العامل الأكثر أهمية لوقف هذا التراجع في الدعم الاجتماعي هو وجود منظمة مندمجة مع النسيج الاجتماعي الذي توجد فيه ومستعدة للعب دور ديناميكي في المراحل الحساسة. ولكن جرحًا كبيرًا أصاب ضمير أجهزتنا بشكل عميق بسبب إقصاء رؤساء فروعنا وأجهزتنا الذين قادوا المقاومة الوطنية في 15 يوليو من خلال التحجج بمصطلحات غامضة مثل “الترهل البنيوي”.
الأمر الأكثر خطورة هو ظهور فئة ترى نفسها متفوقة فوق لجان حزبنا وتحاول إدارة الحزب مثل كيان مواز، وإقصاء المسؤولين المنتخبين واللجان في الحزب.
إن ضعف الحماس الذي لوحظ في الانتخابات الأخيرة في مؤسساتنا إلى حد ما، ما هو إلا نتيجة الإحباط الناجم عن عدم الوفاء تجاه عناصر أجهزة ومؤسسات الحزب التي أظهرت تضحيات كبيرة في السابق.
من جهة أخرى،إن تضييق صلاحيات الشخصيات المنتخبة مباشرة من الشعب في الانتخابات العامة والبلدية، لصالح لجان الحزب ومجالس البلديات، أو إجبارهم على ترك المنصب عبر الاتهامات والضغوط، ألحق ضررًا بالمؤسسة السياسة ووجه ضربة قوية لمبدأ سلطة الإرادة الوطنية ولارتباط حزبنا بالنسيج الاجتماعي.
من أبرز المبادئ التأسيسية لحزبنا، هي الاعتماد على “العقل المشترك”، لقد نال حزبنا تقدير شعبنا عبر اجتيازه العديد من الأزمات الصعبة بفضل آليات الشورى المؤسساتية والعقل المشترك. لكن وللأسف، فإن هيئات وآليات الشورى التي تساهم في تجسيد العقل المشترك لدى حزب العدالة والتنمية، إما أنه تم إقصاؤها بشكل كامل أو أنها فقدت وظيفتها بسبب احتكار المصادقة عليها من قبل رأي واحد ومعيّن. في هذا الإطار، يجب تفعيل الوظائف الحقيقية للبنية المؤسساتية لحزبنا والاستفادة من المقترحات القادمة من التشكيلات الحزبية الفرعية، لاتخاذ القرارات السياسة في أرض الواقع.
لا يمكن التضحية ببلدنا وحزبنا الذي تأسس بدموع شعبنا، وجهوده، وأفكاره ومشاعره، في سبيل فئة وقعت أسيرة لأطماعها الشخصية وباتت تتبع مصالحها الذاتية. في هذا الإطار، يتوجّب وبأقرب وقت، تعزيز البنية المؤسساتية لحزبنا، وتفعيل آليات الشورى والعقل المشترك وعودة تشكيلاتنا الحزبية إلى وظيفتها الأساسية وإعادة تأسيس روابطنا مع الشعب مرة أخرى على أرضية من التواضع.
إعادة النظر من قبل حزبنا في النتائج الانتخابية، يجب أن تشمل أيضاً سياسة التحالفات أيضاً. لا شك أن الحوار، والتعاون البنّاء وتطوير المفاهيم المتبادلة بين الأحزاب، هام جداً من حيث ديمقراطيتنا ووحدتنا الوطنية. وفي هذا السياق، كانت بيئة التعاون والحوار عن كثب الذي تجسّد في روح ميدان “يني كابي” في أعقاب مرحلة 15 يوليو/تموز (2016)، خطوة صائبة. بالرغم من هذا، فمن الواضح من خلال النظر إلى النتائج الانتخابية الأخيرة بأن سياسة التحالف أضرت بحزبنا سواء من حيث نسبة الأصوات، وأيضاً من حيث الهوية الحزبية. ولم يستطع حزبنا تحقيق أهدافه سواء داخل التحالف نفسه أو في مقابل التحالفات الأخرى، وخسرنا العديد من البلديات التي كنا نديرها.
إضافة إلى ذلك، وضعت سياسة التحالف حزبنا ضمن نطاق لغة وهوية سياسية ضيّقة، وأضرت بالموقف الخاص بنا والقائم على احتضان كافة مناطق ومجتمعات بلدنا. في هذا الإطار، يتوجّب على حزبنا إعادة النظر في سياسة التحالف ضمن سياق تحليلها الصحيح لنتائج الانتخابات الأخيرة. ففي نفس الوقت نحرص فيه على التعاون الوثيق مع الأحزاب المختلفة حول القضايا التي تهم بلدنا، يجب أيضاً الحفاظ على الهوية والفلسفة السياسية الخاصة بحزبنا.
باختصار، حزبنا يحتاج اليوم إلى تجديد من كافة النواحي. الأعوام الـ 4 المقبلة والخالية من الانتخابات، تعطينا الفرصة المناسب واللازمة من أجل هذا التجديد. إن استطاع حزب العدالة والتنمية تحقيق هذا التجديد الجذري خلال هذه المرحلة، يمكنه استعادة مكانة الخطاب والمكانة السياسية التي فقدها. والأهم من هذا كلّه، يمكنه استرداد التفوّق المعنوي الذي يخسره بسرعة.
وبما أنه من غير المتوقع التخلّي عن هذه الأمانة وهذا الإرث التاريخي الكبير، بغض النظر عن شخصياتنا الفانية، فلقد وجدت أنه من الضرورة مشاركة آرائي في القضايا التالية، ضمن إطار الحديث عن مستقبل بلادنا.
التحالفات التي جاءت تزامناً مع الانتقال إلى النظام الرئاسي في الحكم، لم تنجح في إزالة التبعثر السياسي على عكس ما كان متوقعاً، بل أدت إلى حدوث الاستقطابات السياسية وإلحاق الضرر بالقيم المشتركة التي تحافظ على وحدة مجتمعنا. كما أن الخطابات القاسية الصادرة من بُنى التحالف والتي تشجع على الاستقطاب خلال الفترة الانتخابية، أوصلت الاستقطاب السياسي إلى مراحل خطيرة، فضلاً عن إلحاقها الضرر بسلامنا الاجتماعي والوعي المشترك لدينا.
المتنافسون في الانتخابات هم منافسون سياسيون وليسوا أعداءً، أما الفائز فيها هو شعبنا و ديموقراطيتنا، بغض النظر عن الأشخاص. وإن احترام نتائج الانتخابات هو واجب الساسة قبل غيرهم. القلق حول وجود وبقاء الدولة، لا يمكن أن يكون مبرراً لإضعاف الديمقراطية. بل على العكس، إن الديمقراطية هي أساس بقاء ووجود دولتنا.
نتيجة لوصف المنافسين بالأعداء من خلال خطابات الصراع على البقاء والوجود، والاستقطاب الذي يتجاوز حدود المنافسة السياسية، نتيجة هذا كله رأيناها للأسف في الاعتداء البشع بأنقرة خلال حادثة جنازة شهيد كان من المفترض أن يوحدنا جميعاً. مرة أخرى أندد بالاعتداء الذي استهدف زعيم المعارضة، وأدعو الجميع للتحرك ضمن النظام الديمقراطي والابتعاد عن الخطابات السياسية الاستقطابية.
إن العنصر الرئيسي من أجل استقرار الشعوب، وبقاء الدول وأنظمة المجتمعات، هو الوعي المشترك. الحقيقة الأساسية التي ينبغي علينا جميعاً تذكّرها في كل لحظة: الجمهورية التركية هي إرث الإرادة المشتركة والصمود لـ 82 مليون مواطن. وبالتالي، يجب ألا يتعرّض لخطاب الكراهية بأي شكل من الأشكال أي شخص يحمل هوية الجمهورية التركية التي تُوّجت بالكرامة الإنسانية، سواء من قبل صاحب منصب أو نفوذ، وألا يتعرض للتمييز بسبب عقيدته، وجنسه، ومعتقداته، ولغته، وعرقه، وفكره السياسي، ومفهومه الفلسفي ونمط حياته.
الفضيلة الأولى والأساس الأول للنظام الاجتماعي القائم على هذا الوعي المشترك، هي العدالة. إن أي نظام قانوني لا يستند إلى مفهوم عدالة سليمة، وإلى كافة الأنظمة السياسية والاجتماعية التي تضمن حياة الإنسان، وعقله، ومعتقداته، ونسله وملكه، سيكون معرّضاً لكافة التدخلات الداخلية والخارجية، ولكافة الاعتداءات والفوضى. القانون ليس مكاناً ومجالاً لاحتكار القوة، بل مجال لممارسة الرقابة على القوة ونقلها إلى المجال الأخلاقي. مساعي السيطرة على القضاء، تحت أي مبرر ومن من قبل أيّ كان، يجب أن تُعامل كجريمة كبرى.
القوة التي واجهت ليلة 15 يوليو/تموز، تلك المحاولة الانقلابية الخائنة التي استهدفت مستقبل بلادنا وشعبنا في الماضي القريب، هي قوة الكرامة التي أظهرناها مع شعبنا، الوسيلة التي ستحول هذه المقاومة إلى نصر النهائي هي العمل الصحيح لترسيخ ميزان العدالة خلال عملية التقاضي. لذا فإن القاضي خلال إصدار حكمه، والنائب العام خلال تحضير محضر الادعاء، يجب ألا يحمل هماً سوى ماهية الدعوى والعدالة والنهائية، ويجب ألا يتعرّض لأي تدخل أو توجيه.
إن انتهاج معايير مختلفة تجاه أشخاص مختلفين في المكافحة التي يجب القيام بها دون تنازلات ضد منظمة “فتح الله غولن” الإرهابية، تلحق الضرر بهذه المكافحة. ويجب في هذا الصدد حماية مبدأ “شخصية العقوبة” بدقة لكونه المبدأ الأساسي للقانون.
هناك علامات استفهام تظهر لدى الضمير العام في مسألة مكافحة منظمة “فتح الله غولن” الإرهابية عندما يتم فصل موظف من المستويات المنخفضة من العمل بسبب علاقة أحد أقربائه بمستوى متدن أيضاً مع المنظمة، بينما لا يكون هناك حرج في تسليم أرفع المناصب في الدولة لأشخاص درسوا في مدارس المنظمة ولديهم أخوة أو أقارب يشغلون مناصب مهمة في المنظمة وكان لهم دور في عملية الانقلاب.
إن حاجة تركيا إلى دستور مدني وديمقراطي وشامل أصبحت أكثر من أي وقت مضى. وكنت قد طرحت على رئيسنا بشكل خطي ولفظي هواجسي ومقترحاتي حول حزمة البرلمان فورًا. ولكن للأسف، ما شهدناه في الفترة الماضية برر مخاوفي، علي أن أقول متأسفًا إن نموذج النظام الجديد لا يلبي تطلعات أمتنا سواء من حيث أسلوب الهيكلة أو التنفيذ. وفي هذا الجانب، نحتاج إلى إجراء مراجعة جادة وصادقة حول مسألة تغيير النظام.
النقطة الأولى التي يجب أن نبدأ بها في هذه المراجعة هي مسألة وجود وحماية سيادة القانون التي تعتمد على إعادة بناء مبدأ الفصل بين السلطات. شهدت تركيا أزمات في الإدارة بسبب القيادة المزدوجة في السلطة التنفيذية والتي نجمت عن دستور 12 سبتمبر. قام النظام الجديد بحل هذه المشكلة، لكنه أضر بمبدأ فصل السلطات عن طريق هيمنة التنفيذ على التشريع والقضاء، وعطّل آليات التوازن والرقابة.
من أجل ضمان الفصل بين السلطات، يجب إعطاء السلطة التشريعية استقلالية تحقق التوازن أمام السلطتين التنفيذية والقضائية. في هذا السياق، يجب تعزيز سلطة التمثيل لجميع النواب وتعزيز فعاليتهم في العملية التشريعية من خلال مراجعة النظام الانتخابي وقانون الأحزاب السياسية.
هناك مسألة أخرى نحتاج إلى معالجتها في إطار هذه المراجعة وهي مسألة إعادة تنظيم بنية الدولة. تستمد الدولة استمراريتها على مر التاريخ من خلال الممارسات المعمول بها والمؤسسات العاملة. إعادة تنظيم هذه الممارسات والمؤسسات وفقًا للظروف المتغيرة، أمر ضروري لمجاراة التدفق الطبيعي للتاريخ. في عملية إعادة التنظيم هذه، يجب حماية توازن “الاستمرارية – التغيير” بعناية. تأخير التغيير الضروري عن طريق تعطيل هذا التوازن لصالح الاستمرارية، يؤدي إلى ظهور “ستاتسكو” وجمود، بينما يؤدي تعطيل التوازن لصالح التغيير إلى تحول بنية الدولة للوحة “اكتب – امسح”، ويضعف استمرارية الدولة.
يجب التخلي عن التعصب المؤسسي القائم على الوضع الراهن من خلال إعادة تنظيم الدولة، ولكن مع حماية الثقافة والذاكرة المؤسساتية بعناية. يجب أن يتم هذا التنظيم بحكمة تأخذ في الاعتبار تراكم الخبرة للدولة ومتطلبات الزمن وتفعّل العقل المشترك، وليس عبر القرارات الظرفية والتعسفية والمفاجئة.
في هذا السياق، تتمثل إحدى أهم سمات بنية دولتنا، في تمثيل منصب الرئاسة للمجتمع بأسره واحتضان جميع الشرائح. إن منع الصراع بين النظام الرئاسي التقليدي لدينا والقائم على احتضان جميع الشرائح وبين النظام الرئاسي القائم على أساس الهوية الحزبية، يعد من أكثر القضايا الحساسة التي نحتاج إلى أخذها في الاعتبار عند الانتقال من النظام البرلماني الذي أخلّ بطبيعته دستور 12 سبتمبر، لصالح النظام الرئاسي.
الانتماء الحزبي للرئيس لا يعد مشكلة كما يلاحظ في الأنظمة الرئاسية الديمقراطية، ولكن تولي نفس الشخص لمنصب الرئاسة العامة للحزب أيضاً يشكل عيوبًا من حيث عمل الدولة وإضفاءً للطابع المؤسسي على الحزب. خوض الرئيس كطرف في الصفوف الأولى في الانتخابات، وفي الجدل السياسي الكثيف والشديد في أغلب الأحيان والذي يتطلبه المناخ الانتخابي، يؤدي إلى ابتعاد مؤسسة الرئاسة نفسياً عن نصف المجتمع على الأقل، في الوقت الذي يجب أن تكون فيه على مسافة واحدة من كافة شرائح المجتمع وفق تقاليدنا في مسألة الدولة.
في هذا الصدد، يجب إعادة تقييم نظام الرئاسة المرتبطة بالحزب باعتباره واحداً من أهم العناصر الأساسية للنظام الجديد، بشكل مستقل عن شخصية رئيسنا، وإزالة العيوب الناجمة عن إدارة منصبي الرئاسة والرئاسة العامة للحزب في نفس الوقت.
يجب أن يتم توضيح قضايا مثل إعادة تعريف التواصل الأفقي المؤسسي والعلاقات الهرمية العمودية
في مراسم الدولة، وتوضيح دور الوزارات في النظام التي تبدو محاصرة بين ما تفرضه الهوية والوظائف السياسية/التكنوقراطية، وتحديد موقف المجالس السياسية المنشأة حديثًا في هيكل الدولة. فلا يمكن لهيكل دولة ما أن يكون دائماً إذا لم يتمتع بتصور كلي، وآلية عملية انسيابية.
من الواضح أن بلدنا يواجه اختبارات أمنية غير قابلة للمقارنة مع أي بلد آخر؛ وذلك بسبب المنطقة الجغرافية التي يقع بها. وجيشنا الذي يشكل أقوى عنصر مقاومة حيال هذه التحديات، تجاوز في 15 يوليو/تموز 2016 صدمة هي الأعمق من نوعها التي من الممكن أن يواجهها أي جيش آخر، واستطاع أن يعود إلى نظامه الداخلي، بشكل فاق كافة أشكال التوقع. إن التحول الأساسي الذي يتعين حدوثه حتى تتجنب بلدنا وأمتنا التعرض لأية محاولات انقلابية أخرى، هو إضفاء الصبغة الديمقراطية على العلاقة بين الجيش والسياسة، وجعل الإرادة السياسية المدنية مؤثرة وحاسمة لأقصى درجة على كافة أشكال آليات البيروقراطية.
وفي سياق المخاطر الأمنية التي نواجهها، يجب أن تتواصل وبدون انقطاع العمليات ضد تنظيم “فتح الله غولن” الإرهابي التي أطلقناها عقب المحاولة الانقلابية في 15 يوليو 2016، وعقب المؤامرات التي وقعت خلال الفترة من 17 إلى 25 ديسمبر/كانون الأول 2013، وتتواصل كذلك عملياتنا ضد تنظيمات “بي كا كا”، و”داعش”، و”حزب التحرر الشعبي الثوري(DHKP-C)، الإرهابية.
غير أنه من الأهمية بمكان، أن يتم خلال هذه العمليات إيلاء أهمية كبيرة للمقاييس الحساسة للتوازن بين الحرية والأمن، بحيث نضمن أن القطاعات الشعبية العريضة لديها تفهم لهذه العمليات. إن وسم الآراء الفكرية المختلفة بالإرهاب، واعتبار الاختلافات السياسية ضرباً من الخيانة، لأمر يضر في المقام الأول بوحدتنا الوطنية، كما أن استمرار التصور القائل بأن البلاد تعيش أزمة، أمر آخر من شأنه أن يوجه ضربة كبيرة للديمقراطية، والحياة السياسية، والحياة الاقتصادية.
إنه لمن غير المقبول أن تتحول المخاوف الأمنية إلى حالة يتم معها القيام بعد الانتخابات المحلية الأخيرة بسلب حق دستوري -كالتصويت والترشح للانتخابات-، من أيدي أولئك الذين فصلوا من وظائفهم العامة إبان حالة الطوارئ دون أن يكون هناك قرار من المحكمة. وأنا حتى لا أريد التفكير فيما يمكن أن تسفر عنه مزاجية كهذه على المدى الطويل، تُصدر قرارات إدارية، وممارسات خاطئة. فالدستور نص أساسي للجميع، لا يمكن تفسيره بشكل مزاجي.
ومن ثم فإن توسيع مجال الحرية في أسرع وقت ممكن، بات شرطًا أساسيًا لإعادة بناء ثقتنا بأنفسنا التي نعتز بامتلاكها، والأهم من ذلك كله، هو إعادة بناء ثقتنا في بعضنا البعض. فالصحفي، والأكاديمي، وقادة الرأي، والسياسي، وأي شخص كان ممن يعبر عن أفكاره، لا يجب أن يقابل بتهديدات بالفصل من عمله، أو بالتشهير، أو أن يصبح ضحية وسائل التواصل الاجتماعي، وأن تتم إهانته. يجب حماية الحق في الانتقاد والتعبير عن الأفكار، حتى أبعد مدى ممكن.
أما الصحافة التي توصف في الديمقراطيات المتقدمة على أنها السلطة الرابعة، والتي تعتبر في الوقت ذاته العنصر الأساسي للفكر الحر، والنقد، فقد باتت وسيلة للدعاية التي تدار من قبل مصدر واحد. الحرية الصحفية الحقيقية هي الجهاز المناعي لديمقراطيتنا. ومن ثم فإن تدميرها، والتوجه إلى احتكار الصحافة بأساليب قمعية وغير قانونية، لأمر من شأنه تضييق القدرة العقلية لتركيا.
وفي هذا الإطار، يتعين إقامة نوع جديد من التوازن بين الحرية والأمن تتسع فيه مجالات الحرية دون أن نفقد مكتسباتنا في الجانب الأمني.
قوة المجتمع المدني تتجلى في الضمائر العميقة وليس في البنايات الشاهقة. والديمقراطية التعددية تتحقق في أجواء يؤثر فيها المجتمع المدني في المؤسسة السياسية من خلال أساليب مشروعة، وبشكل شفاف، ويراقب فيها المجتمع ذاته الإدارة العامة. ولعل سعي كيانات سرية مثل تنظيم “فتح الله غولن” الإرهابي، لفرض الوصاية على السياسة بهدف السيطرة على قوة الدولة بشكل غير مشروع، وجعل الدولة وسيلة للسيطرة على المجتمع المدني، لأمر ألحق ضررًا بالديمقراطية. وإن دمج المجتمع المدني في الدولة، والوصول لحالة لا يمكن معها التعبير عن الآراء حول المخاوف المختلفة، أدى إلى تدمير روح وضمير المجتمع المدني.
والعامل الرئيس لإعادة اكتساب السياسة اعتبارها لدى المجتمع، هو التركيز على المسار الذي قمنا به تحت شعار “الياءات الثلاثة” (المحظورات، والفساد، والفقر) الذي كان يعتبر أحد أهم الشعارات التي أضفاها حزبنا على أدبيات السياسة. ومن ثم يبدو أنه بدون إجراء مراجعة صادقة لمعرفة أين نقف بخصوص هذه الموضوعات الثلاثة، سيكون من الصعب للغاية إعادة الاعتبار للسياسة مرة ثانية، ومن الصعب منح ثقة جديدة للمجتمع.
الشرط الذي يحمل أولوية قصوى لتكون هناك فعالية في إدارة الدولة، هو أخذ عنصري الكفاءة والجدارة بعين الإعتبار عندما يتعلق الأمر بالسياسة، والإدارة العامة. وعلى العكس من ذلك، فإن انتشار المحسوبية، والقرابة في الإدارة العامة، هو السبب الأهم، والمؤشر الصادم لجميع أشكال الفساد وتسمم السلطة.
إن الطبيعة الواسعة لهذا الفساد تجعل من المستحيل على آليات الرقابة المنطقية أن تعمل. من أجل الأداء الرشيد للمؤسسة السياسية والبيروقراطية، ينبغي عدم إدراج من تربطهم علاقات قرابة وثيقة في التسلسل الهرمي الأعلى لإدارة الدولة، وينبغي تجنب التركيز على منشأ الموظفين ومنطقتهم ومدينتهم، وينبغي تحديد التعيينات الاستثنائية بوضوح وشفافية.
من ناحية أخرى، فإن عكس العلاقات الأسرية -التي تحتاج إلى البقاء في المجال الخاص- في المجالين العام والرسمي يضر بالحياة الأسرية ويؤدي إلى ظهور علاقات تتجاوز مجال المسؤولية القانونية. لا ينبغي أن يتمتع أفراد عائلات السياسيين والمسؤولين الحكوميين بميزة خاصة للاستفادة من مرافق الدولة، ولا ينبغي أن يتعرضوا للنقد العدواني.
الحل الأكثر دقة لجميع هذه القضايا المتعلقة بالأخلاقيات السياسية هو أن يهيمن مبدأ الشفافية على كل جانب من جوانب الحياة الاجتماعية. بالإضافة إلى كونها مبدأ أخلاقي، فإن الشفافية هي أيضًا الوسيلة الأساسية لمنع أي نوع من مبادرة الوصاية كجماعة “فتح الله غولن الإرهابية، وغيرها. إن العامل الأكثر أهمية الذي سيمنع أي محاولة انقلاب لأي غرض، هو جعل الشفافية مهيمنة على كافة جوانب الحياة، بداية من المجتمع المدني إلى مؤسسات الدولة، ومن هياكل الشركات إلى المنظمات الخيرية، ومن وسائل الإعلام التقليدية إلى وسائل التواصل الاجتماعي.
ومن جانب آخر، ينبغي بشكل عاجل مجابهة أشكال الدعاية السائدة في الرأي العام حول أشكال معينة للفساد، مثل طرح مناقصات القطاع العام بدون تبليغ عام، وظهور استثناءات في المناقصات تتجاوز كامل قانون المناقصات، وتنفيذ مشاريع معينة بميزانية الدولة من قبل الأشخاص نفسهم في كل مرة.
وفي هذا الإطار ينبغي سن قوانين عاجلة تعزز مبادئ الشفافية والأخلاق السياسية، تشمل مراقبة شفافة لمصادر القطاع العام، وعدم استخدام مصادر القطاع العام في المصالح الشخصية. وعدم وجود تقاطع بين مهام الأشخاص الذين يؤدون مهام رسمية في الدولة وبين استثماراتهم الاقتصادية في حياتهم الخاصة، وبهذا ينبغي تعريف قواعد الأخلاق السياسية وترسيخها في القوانين والتعاملات، فمن شأن ذلك عدم تركها للاجتهاد الخاص للأشخاص حيال الأخلاق وتوصيفاتهم لها.
ومن أهم الأمور التي تكمن وراء وجود التفاف على المستوى الشعبي حول حزب العدالة والتنمية، هي النجاحات على صعيد السياسة الاقتصادية. عندما جاء حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002، كان الاقتصاد قد شهد أزمات متتابعة خيبت آمال الناس، وعندها كان مستوى الناتج القومي للفرد قد تراجع للمستوى المسجل قبل 10 سنوات، إن تحركات تركيا كانت مكبلة ابتداء من السياسة الخارجية ووصولاً إلى تحقيق الأمن.
إن إعادة إحياء مشاعر الثقة كانت من أهم العوامل الكامنة وراء النجاح الاقتصادي الواضح للجميع، ومع الأسف نحن نرى أن مستوى الثقة هذا تراجع اليوم إلى مستوى أدنى من المستويات التي حققناها في الماضي، ومن الأمثلة الصارخة على ذلك هو تراجع الناتج القومي للفرد بالدولار الأمريكي عام 2018 إلى ما دون مستوى ناتج الفرد في عام 2007، إن إنكار حقيقة الأزمة الاقتصادية التي يحس بها كافة شرائح المجتمع، لن تؤدي إلا إلى زعزعة الثقة بالحكومة. لن نستطيع إدارة الأزمة بإنكار وجودها.
ثمة أزمة إدارة تكمن في أساس الأزمة الاقتصادية التي نعيشها. إنّ القرارات المتعلقة بالسياسات الاقتصادية بعيدة عن المعطيات الحقيقية، إن كانت الإجراءات المتخذة بخصوص السياسات الاقتصادية تتنافى مع إجراءات السوق وعلم الاقتصاد، وإن ساد مفهوم في الرأي العام يقول بأنّ هذه الإجراءات اتخذت بشكل كيفي ولها طابع جهوي، فإن الثقة بالحكومة ستتراجع.
لا يمكن إعادة ملف الاقتصاد لوضعه الصحيح من جديد دون إعادة تأسيس الثقة، من أجل منح الثقة للشعب يجب تحقيق الثقة بالنفس في الحكومة ذاتها. والثقة بالنفس ينبغي تحقيقها بالمعلومات والخبرة والقيام بما يلزم، في حال وجود شخص غير مسلح بالتجربة والمعلومات، ومدفوع بقرابة شخصية، وثقة بالنفس مبالغ فيها، سيبقى التصور بعيداً عن الواقعية.
إن انتهاج لغة الأمر والاتهام بحق الشرائح التي تعاني في الأصل، وممارسة الضغط على التوازنات القائمة داخل السوق والعمل على تحقيقها رغما عن السوق نفسه، من أجل إنقاذ الواقع الراهن، ليس إلا طريقا مسدودا يؤدي إلى تنفير المستثمرين الدوليين. النزاع وعدم الاستقرار ليسا ما ينتظره مواطنونا من الإدارة الاقتصادية، وانماً يتوقع حماية المشاريع ومستوى رفاه المواطن.
إن تحقيق العدالة وسيادة القانون بما لا يدعو للشك، هو الشرط الأساس من أجل تحقيق النجاح الاقتصادي. إنّ أجواء التنافس الاقتصادي والاستثمار المنظم لا يمكن تحقيقها إلا باكتساب القدرة على التنبؤ، وتطبيق القوانين على الجميع بشكل عادل، وضمان حق التملك. وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا ببقاء القضاء مستقلاَ وذو سيادة، وسريع وفعال، وأهم شيء أنّ هذا الأمر لا يمكن أن يتحقق إلا في دولة تنسجم قوانينها مع القوانين العالمية.
إن الفلسفة الاقتصادية لحزبنا منذ نشأته تقوم على اقتصاد السوق الحر، في اقتصاد السوق الحر، الدولة كيان لا يتدخل بشكل مباشر وكيفي، والأسعار فيه تحدد وفق العرض والطلب. إنّ القرارات المتخذة في الآونة الأخيرة بعيدة كل البعد عن مبادئ السوق الحر، إن إدارة الدولة لاقتصاد السوق يقتصر على كونها موضوعية ووضع القواعد العامة وتجربة فعاليتها. الرقابة يجب أن تكون مستقلة وحيادية وقائمة على المبادئ الموضوعية، وينبغي ألا تخضع لأي ضغوط أو تهديدات. وفي هذا الإطار التدخل المباشر في سياسات القروض البنكية ومدخراتها لن ينجم عنه أي حل.
ومن أهم العناصر في قصة النجاح الاقتصادي لحزب العدالة والتنمية هي تحقيقه في ما مضى للمأسسة في الاقتصاد. في الآونة الأخير شهدت التكليفات الوظيفية في مؤسسات الدولة ترجيح جوانب أخرى بعيدة عن مقاييس الكفاءة واللباقة، إن الإجراءات الكيفية التي شهدتها مؤسسات القطاع العام، أدت لمحو ثقافة المؤسساتية بحد ذاتها، وتسببت بضرر كبير للمأسسة.
إنّ إدارة المال العام أمانة الشعب بيد الفريق الذي يدير الدولة، للأسف في الآونة الأخيرة بتنا نشاهد مفهوما سائدا عند الرأي العام للمجتمع، مبنى على إسراف من قبل المسؤولين الحكوميين والتباهي، وجاء ذلك مع الإجراءات الأخيرة للحكومة. ومن جانب آخر ودون الحديث عن سعر الفائدة، إن الزيادة في حجم الإنفاق المسجل وما نجم عنه في عجز الموازنة وتورية ذلك في أجور العاملين، أدى إلى زعزعة الثقة. ينبغي تحقيق الشفافية الكاملة في الإنفاق العام وترسيخ مبدأ المحاسبة.
من الأهمية بمكان وجود ثقة في المعطيات التي تعلنها الدولة والقرارات المتعلقة بالاقتصاد. مع الأسف في الآونة الأخيرة بعض القرارات المتخذة تسببت بزعزعة الثقة تجاه المعطيات التي تم الإعلان عنها. وزيادة على ذلك عندما تتزعزع الثقة في حقيقة المعطيات وصحتها والشك في أنها صحيحة، فإنّ أخباراً وتخمينات تبدأ بالانتشار تتعلق باتباع وسائل بعيدة كل البعد عن الشفافية ويطلق عليها في السوق اسم “عملية الباب الخلفي” وهذا يتسبب بعدم استقرار كبير في سعر النقد الأجنبي وأسعار الفائدة، والذي يؤدي إلى تلاشي الأرباح التي يكسبها المنتجون بشق الأنفس، وزوال قيمة الحقوق التي يتقاضاها العمال بعرق جبينهم. في الإدارة الاقتصادية لا يوجد رأس مال أكبر من الصدق ولا يوجد قرض أكبر من السمعة. يجب وبأسرع وقت تأسيس الإدارة الاقتصادية على هذا المبدأ.
الحل يكمن في تهيئة بيئة استثمارية يتم من خلالها تحقيق انخفاض مستمر في نسب التضخم، وزيادة التوقعات الاقتصادية، وتخفيف الأزمات، وتأمين استثمار آمن لرؤوس الأموال الأجنبية وعدم اضطرار رؤوس الأموال في تركيا للبحث عن سبل من أجل الاستثمار في الخارج. في مثل هذه البيئة الاستثمارية أسعار الفائدة ستهبط باستمرار، والليرة التركية ستكسب القوة والسمعة.
وختاماً أريد أن التأكيد -بخصوص التحديات التي واجهناها في السنوات الأخيرة- على تحرير عقولنا والاستعداد النفسي وتقوية روابطنا الاجتماعية واتخاذ الخطوات الضرورية من أجل مستقبلنا المشترك. وأدعو القائمين على حزبنا ومؤسساته المعنية، لتقييم رؤيتنا المستقبلية وكافة النقاط الواردة أعلاه، بعقلانية و هدوء وتأن، والإعداد للمستقبل قبل أن يصاب الأوفياء والمخلصون في القاعدة الشعبية لحزبنا بخيبة أمل، وأدعو أصحاب الفكر والمتنورين والمواطنين من كافة الانتماءات الحزبية أن تتضافر جهودهم من أجل رسم مستقبلنا المشترك على أساس الإرادة والضمير والعقل المشترك. اليوم هو يوم تلاقي عقل الدولة وكرامة الإنسان وضمير الشعب.