دخل التطبيع العربي مع إسرائيل مرحلة جديدة في السنوات العشر
الأخيرة، بالانفتاح الخليجي على تل أبيب، وإقامة العلاقات المباشرة معها، من دون
التوصل إلى أي اتفاق سياسي، ولا تبادل للسفراء، مع تجاهل تام لمبادرة السلام
العربية، التي كانت قبل سنوات قليلة فقط تشترط السلام مقابل التطبيع العربي مع
إسرائيل.
حظيت
إسرائيل أخيرا بتطبيع عربي شبه جماعي، من دون أن تقدم أي التزام لا للفلسطينيين
ولا لجيرانها العرب، بل إن الأراضي الفلسطينية عام 2018 سجلت أعلى نسبة استيطان في
تاريخها، فقد تجاوز عدد المستوطنين في الضفة الغربية مستوى 480 ألف مستوطن، وهو
أعلى رقم منذ احتلالها عام 1967، ما يعني أن إسرائيل التهمت كل ما يمكن التهامه من
أراضي الفلسطينيين عبر الاستيطان والجدار والمصادرات وأعمال الهدم والتهجير
والإبعاد.
وبينما
كان الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية يبلغ ذروته أواخر العام الماضي، فإن
التطبيع الخليجي مع الاحتلال بلغ ذروته هو الآخر، إذ في أسبوع واحد فقط من شهر
أكتوبر/تشرين الأول 2018 تم عزف «النشيد الوطني الإسرائيلي» في عاصمة خليجية،
وبالتزامن مع ذلك كان بنيامين نتنياهو يهبط على عاصمة خليجية ثانية، ليكون أول
رئيس وزراء إسرائيلي تطأ قدماه دولة خليجية، وبعدها بيومين فقط يزور فريق رياضي
إسرائيلي عاصمة خليجية ثالثة، وبينما يتدفق هؤلاء الإسرائيليون على الخليج، كانت
الصحافة العبرية تتحدث عن أمير ينتمي لدولة خليجية رابعة قد زار تل أبيب سرا!
التطبيع الخليجي مع إسرائيل هو التطور الأبرز خلال السنوات الأخيرة في مسار الصراع
العربي الإسرائيلي، لكنه بكل تأكيد الأخطر والأهم، وذلك انطلاقا من المعطيات
التالية:
*أولا:
إن تطبيع دول الخليج مع إسرائيل وإقامة علاقات معها، من دون التوصل إلى أي اتفاق
سلام ولا تعهدات سياسية، يعني بالضرورة القفز على الفلسطينيين وتجاهل مطالبهم
ومصالحهم وأراضيهم، وبالتالي التخلي عن القضية التي طالما ظلت قضية العرب الأولى
طوال العقود السبعة الماضية.
*ثانيا:
دول الخليج أصبحت منذ سنوات هي اللاعب الأهم في السياسة العربية، مع غياب أو تراجع
القوى الكبرى، بسبب ظروفها السيئة، وهنا نتحدث بشكل خاص عن العراق وسوريا ومصر،
وهي دول باتت مشغولة بهمها الداخلي منذ سنوات بعد أن كانت قبل ذلك تقود السياسة
العربية برمتها.
*ثالثا:
دول الخليج هي الأغنى عربيا، وتمتلك ثروات واستثمارات عملاقة، وهي تضم أكبر سوق
مستهلك في العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط، وفيها أكبر مخزون نفطي في العالم،
كما أنها تضم أكبر منتج للنفط في العالم، وأكبر اقتصاد في المنطقة، وكل هذا يعني
أن الوصول الإسرائيلي إلى هذه الاقتصادات سوف يعطي للإسرائيليين واقتصادهم
ومنتجاتهم امتيازات لم يكونوا يحلمون بها من قبل، وسوف يشكل دعما للاقتصاد
الإسرائيلي.
*رابعا:
التطبيع الخليجي مع إسرائيل يعني انتهاء عصر المقاطعة بشكل كامل، إذ أصبحت اليوم
الدول التي تقاطع إسرائيل (سوريا ولبنان) هي المعزولة عن محيطها العربي، بعد أن
كان في السابق من يقيم علاقات مع إسرائيل، أو يثبت تطبيعه مع الاحتلال، يتم عزله
وإدراجه على القوائم السوداء لمكتب المقاطعة العربية. وبطبيعة الحال فمن نافلة
القول اليوم إن «مكتب المقاطعة العربية لإسرائيل» الذي يُعتبر أحد مؤسسات الجامعة
العربية، أصبح هو ذاته يعاني من مقاطعة العرب له، إذ لم يعقد أي اجتماع منذ عام
1993، ولم يصدر عنه أي قرارات تبعا لهذا منذ ذلك الحين.
ثمة
عملية تطبيع مجاني مع إسرائيل، وتل أبيب هي المستفيدة الوحيدة من ذلك، وما يجري هو
محاولة ممنهجة لتغيير المفاهيم والأفكار والعقائد والأيديولوجيا من أجل خلق جيل
عربي جديد ينظر إلى إسرائيل على أنها أحد الأصدقاء، من دون أي اكتراث للأرض
الفلسطينية والسورية المحتلة والحقوق العربية المنهوبة.
يُراد
للعربي أن يتعامل مع إيران وتركيا على أنهما عدوتان، بينما إسرائيل صديقة يتوجب
قبولها في هذه المنطقة، ويُراد لهذا العربي أن يفهم بأن أساسيات الأمن القومي
العربي قد تغيرت وتبدلت، وأن الجيران الذين يعودون إلى آلاف السنين هم العدو،
بينما إسرائيل التي تحتل الأرض وتقوم يوميا بتغيير معالمها هي الصديق الذي لا
يُشكل تهديدا.
عن صحيفة القدس العربي