تأتي انتخابات البرلمان الأوروبي، المقرر انعقادها الشهر المقبل، اختبارا واقعيا للظاهرة التي طغت على أركان السياسة في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، سواء بسواء: استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في الترويج للقضايا المثيرة للخلافات.
وتثير الأحزاب المعادية للهجرة لغطا وصخبا غير متناسب عبر الشبكات الاجتماعية، ما يساعد على الدفع بقضيتهم على قوائم اهتمامات الناخبين. وربما تساعد هذه المناورات تلك الجماعات على تحقيق المكاسب في الانتخابات، ولكن من غير الواضح تماما مقدرتها على استغلال هذا الزخم الافتراضي في تكوين ائتلاف متماسك الأركان داخل البرلمان الأوروبي القادم.
وفقا لمؤسسة «ألتو داتا أناليتيكس» الإسبانية المعنية بجمع بيانات الوقت الحقيقي في كل من فرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، وبولندا، وإسبانيا، فهناك أقل من 0.2 في المائة من مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي في تلك البلدان ترجع إليهم نسبة 11 في المائة فقط من إجمالي الأنشطة المبذولة عبر الشبكات الاجتماعية. ومما يفسر الأمر بصورة أكبر، هو نشاط تيار اليمين عبر مواقع معروفة مثل «تويتر» و«فيسبوك» و«يوتيوب» و«إنستغرام»، وغيرها من المنصات الاجتماعية الأخرى.
وفي ألمانيا، على سبيل المثال، يشكل أنصار حزب «البديل لأجل ألمانيا» والحركات المناهضة للهجرة نسبة لا تتجاوز 16 في المائة من مستخدمي «تويتر»، ونسبة 50 في المائة من إعادة التغريدات عبر المنصة نفسها. وهم يمثلون أيضا نسبة 0.09 في المائة من أغلب الحسابات التي تنبثق عنها 9.6 في المائة من المدونات والمنشورات السياسية في جميع أنحاء شبكات التواصل الاجتماعي.
وفي فرنسا، فإن أكثر من نصف 280 مستخدما ممن ينشرون 11 في المائة من الأنشطة ذات الطابع المسيّس عبر «تويتر»، هم من أنصار حزب «الجبهة الوطنية» الفرنسي وزعيمته اليمينية المتطرفة مارين لوبان. ونشهد في إسبانيا نمطا مماثلا لعدد محدود من المستخدمين الذين يروجون للآراء السياسية لصالح حزب «فوكس» اليميني المتطرف. وفي بولندا وإيطاليا فقط نجد الليبراليين يمنحون الزخم السياسي أفضل ما بحوزتهم.
يسهل تماما على أحزاب اليمين المتطرف تشويه الخطاب والجدال الدائر عبر مختلف منصات التواصل الاجتماعي. وتملك تلك الأحزاب خبرة جيدة للغاية في هذا الشأن، استقتها من نجاح حملتي دونالد ترامب و«بريكست» البريطاني. أما بالنسبة للأحزاب الصغيرة نسبيا، التي تفتقر إلى البنية التحتية الواسعة والموارد الكبيرة التي تتمتع بها أحزاب تيار الوسط المنافسة، فإن موسم الانتخابات من أفضل الفرص السانحة لتشكيل وصياغة وجه الحوار، على الأقل حتى يتمكن خصومهم من اللحاق بالركب.
حققت الحركات المناهضة للهجرة نجاحا ملحوظا في الدفع بأجنداتها السياسية. وأجرى موقع «يوغوف» مؤخرا استطلاعا للرأي في 14 دولة من الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، التي تمثل أربعة من أصل خمسة مقاعد في البرلمان الأوروبي. وخلص المسح، الذي أجري لصالح المركز الأوروبي للعلاقات الخارجية، إلى اعتبار أن الهجرة هي القضية ذات الأهمية والأولوية لدى الناخبين في أربعة بلدان، وهي من بين القضايا الثلاث الأولى على قائمة اهتمامات الناخبين في ثمانية بلدان أخرى شملها المسح.
تؤيد الكثير من الحركات ذات الأغلبية الكبيرة في مختلف أنحاء أوروبا الوقف التام للهجرات غير المشروعة، مع توفير المزيد من العون إلى الدول النامية للحيلولة دون زيادة هذه الهجرات. ولكن هناك نسبة مذهلة تبلغ 38 في المائة من 41.600 مواطن ممن شملهم استطلاع «يوغوف» للرأي، يرغبون في وقف كل أشكال الهجرة المشروعة وغير المشروعة إلى أوروبا. فضلا عن نسبة 45 في المائة منهم فقط - وهم أقلية - ممن يؤيدون الهجرات المشروعة.
وأشار المركز الأوروبي للعلاقات الخارجية، إثر استخلاص الاستنتاجات من الاستطلاع الأخير، إلى أن الناخبين الأوروبيين غير منشغلين للغاية بقضية الهجرة. ففي فرنسا، على سبيل المثال، يشعر المواطن بمزيد من القلق من ارتفاع تكاليف المعيشة، والقضية الأولى بالاهتمام في أوروبا الشرقية هي الفساد الحكومي، وتعتبر البطالة هي الشغل الشاغل للمواطنين في بلدان جنوب أوروبا. أما في إيطاليا، وإسبانيا، وبولندا، يشعر الكثير من الناخبين بالقلق إزاء الهجرة من الأجانب الوافدين إلى البلاد.
وهذا يشير إلى أن الانتخابات البرلمانية الأوروبية المقبلة، لن تتحول إلى ما يشبه الاستفتاء الأوروبي الكبير على قضية الهجرة، كما يأمل قادة الحركات الشعبوية أمثال الإيطالي ماتيو سالفيني. ولكن، وكما يظهر من الأهمية التي تمثلها هذه القضية في أذهان الناخبين الأوروبيين، فإن استراتيجية اليمين المتطرف الأوروبي عبر شبكات التواصل الاجتماعي، يبدو أنها تؤتي بعضا من ثمارها.
أما تحويل ذلك الزخم المستند إلى الأجندات السياسية المعروفة إلى مقاعد حقيقية في البرلمان الأوروبي، وإلى قوة سياسية متماسكة وراسخة، فهذا من المسائل المختلفة تماما. وذلك لأن السياسة، بعد كل شيء، لا تقتصر على مجرد تعبئة آراء المستخدمين عبر منصات التواصل الاجتماعي المتنوعة. وتتنبأ استطلاعات الرأي بأن تحقق الأحزاب الشعبوية الأوروبية مكاسب متواضعة للغاية، بالاستناد إلى أدائها السابق في انتخابات عام 2014 السابقة.
ولا تحرز جهود ماتيو سالفيني الحالية لرأب الصدع وجبر الفجوات الكبيرة في نسيج اليمين الأوروبي إلا الطفيف من النتائج المعتبرة. وحتى رئيس الوزراء الهنغاري فيكتور أوروبان، الذي تتقارب آراؤه المعادية للهجرة كثيرا مع آراء الحركة الشعبوية الإيطالية، فإنه أبعد ما يكون عن القوة الأوروبية الشاملة الكبيرة والجديدة التي يبذل سالفيني قصارى جهده لصياغتها. وليس خفيا عن الأنظار تلاشي الجهود الكبيرة التي بذلها ستيف بانون، كبير المخططين الاستراتيجيين السابق في إدارة الرئيس ترامب، في توحيد حركات أوروبا الشعبوية تحت مظلة واحدة.
والساسة الذين يعتبرون إقصاء المهاجرين جزءا من الآيديولوجية التي ترتكن عليها سيادة بلادهم، سوف يقاومون أي جهود حقيقية لإدخالهم ضمن القطيع الأوروبي الكبير. وينبغي لطبيعة المشروع الأوروبي، والعابرة للحدود الوطنية للدول الأعضاء، أن تعد ثقلا موازيا لما تحرزه حركات اليمين المتطرف من نجاح عبر التكنولوجيا والإنترنت. وينبغي عليه أيضا إفساح بعض المجال أمام تيارات الوسط، بغية تحسين مهارات التواصل الاجتماعي لديهم، ودفع أجنداتهم الخاصة بمزيد من الكفاءة والفعالية.
عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية