إذا كان شعب الجزائر، كأي شعبٍ محترمٍ، يتطلع إلى حق التعبير عن ذاته، وممارسة التغيير في جو سياسي هادئ مستقر... وفي المقابل يُوجَدُ رئيسٌ مريضٌ مرضًا يقعده عن مباشرة مهامه، وها هو قد أخذ فرصته كاملة، بعد ولايته الأخيرة، تلك التي ظَلَّ غالِبَ مدتها غائبًا عن المشهد السياسي...ما يمثل فرصة تاريخية لكل من الشعب الجزائري ورئيسه كليهما؛
- فهي فرصةٌ لرئيسه أن يدخل التاريخ من أوسع أبوابه فيحترم إرادة شعبه ويدع الفرصة لغيره في هدوء بعد انتهاء ولايته دون خَلْقِ مشكلات أو إثارة فتنٍ أو تفجير أزمات...
- وكذلك هي فرصة للشعب في ممارسة حق التغيير بهدوءٍ وأريحية دون استنزاف طاقته وتبديد موارده وتشتيت جهوده فيما لا طائل من ورائه سوى تفويت فرصة الرهان على وعي الشعب ورشده وحقه في تقرير مصيره، وتحديد مصالحه بعيدًا عن ادِّعاءات الوصاية عليه من الداخل أو الخارج...
مَنْ إذًا صاحب مصلحة دخول بلد كبير، كالجزائر ذي التاريخٍ العريق، في توترات وثورات قد تُفضي بها، مع التدخلات الخارجية، إلى أنفاقٍ مظلمة وعواقب غير محمودة... ألم يكن الأجدر بالرئيس أن يحترم نفسه فيقدم المصلحة الوطنية على أي اعتبار حزبي أو مصلحة نخبويا فئوية، ولاسيما أنه لم يعد بوسعه فعل شيءٍ؟
ألم يكن الشعب الجزائري جديرًا بالتقدير والاحترام بعدما برهن على رشده وعقلانيته بعد محنة الانقلاب على الديمقراطية في أعقاب التسعينيات؟... ثم مَنْ صاحب المصلحة في تأزيم المشهد الجزائري بهذه الصورة المثيرة للريبة؟!...
وإذا كانت القيادات السياسية الجزائرية، في حزب جبهة التحرير، وطنية، فلماذا لا تراعي مصلحة الوطن وتحترم إرادة المواطنين وحقوقهم في اختيار مَنْ يمثلهم... لماذا الإصرار على التأزيم؟!...
مَنْ صاحب المصلحة في جَرِّ البلاد إلى مستنقع الفوضى وإلى دراما التسعينيات؟
إنَّ ما يحدث في الجزائر يتجاوز مجرد وجود تنظيم دولة عميقة وأصحاب مصالح ومتنفذين يتمترسون خفية خلف مشهد رجلٍ مُقْعَدٍ لا يُبين... وكذلك يتجاوز الأحزاب السياسية التي لم تبلغ قوتها حَدَّ اعتبار السلطة من حقوقها المشروعة... فإذا بهذه الأحزاب في أية مساومات سياسية أو مواءمات وتوافقات ترضيها المناصب وحظوظ النفس ولو مع الجانب الخطأ!...
إنَّ خلفيات المشهد الجزائري أعقد بمن ذلك بكثيرِ؛ فنحن بصدد تنظيم عسكري في الجيش الجزائري ذي أجندة خارجية وحسابات خاصة مع قوى إقليمية وغربية لم ترهن دروس التجارب على إخلاصها لشعبٍ دست أنفها في شؤونه... وهو الأمر الذي يبعث بالشك في توقُّعِ حلولٍ ناجزة للمشكلة الجزائرية في الأجل القريب.
وعلى وقع صدى كلمة رئيس أركان الجيش الجزائري، إذْ لم يعد مستبعَدًا أن نسمع غدًا عن فئات مندسة بين أوساط الجزائريين بغرض التخريب!... الأمر الذي يقتضي من الجيش التدخل بحجة حفظ الأمن وتحقيق الاستقرار وحماية المتظاهرين من خطر المندسين!... وبذلك يتم إجهاض المسيرات الشعبية بطبيعة الحال!..
لا معنى لكلمة رئيس الأركان الجزائري سوى ذلك... فهو يستحضر مؤامرة أعداء الجزائر... ويعطي إشارة لفئات المندسين كي تتجهز لساعة الصفر... وبذلك يتم إجهاض أمل الشعب في تحقيق الأمن والاستقرار والتنمية على صعيدي المجتمع والدولة...
إن حديث رئيس الأركان عن جهات خارجية تسعى لإفساد الحراك الشعبي... هو حديث يعكس في أحد معانيه أنَّ نفرًا من الجيش الجزائري ذاته، وليس الحراك الشعبي، هم الذين يعملون خارج إطار الأجندة الوطنية ومصالحها الاستراتيجية في الأجلين القريب والبعيد...
وعلى صعيد تأثير تداعيات المشهد الجزائري، فإن المتتبع لنشاط رئيس الأركان العجوز في المحيط الإقليمي خلال الأسابيع الماضية لا يمكنه أن يبرئ ساحة بعض الحكومات العربية من المسؤولية عن تأزيم الأوضاع على الساحة الجزائرية... فإنَّ بصمات السيسي وحليفيْه واضحة لا تحتاج ذكاءً في بيانها... وهذا لا يعني سوى بقاء المشكلة الليبية معلقة... فيما يُتوقّع للأوضاع في تونس أن تراوح مكانها فلا تتأمّل في أفضل مِمّا هي عليه...وقد تتأثر الجارة المغربية بعدم الاستقرار الجزائري على أية حال... الأمر الذي يهز الإقليم المغاربي برمته هزًّا عنيفًا بل ويضربه في مقتل!...
خلاصة المشهد وتطوراته، أنَّ قائد الأركان لم يكن مخولاً بالحديث في شأن سياسي عام منفردًا بعيدًا عن القوى الوطنية ومجلس الأمة... بل إنّ ظهوره متصدرًا المشهد بهذه الطريقة لا مسوغ له من الناحية السياسية والأخلاقية... ولا معنى لبيانه سوى أننا بصدد انقلاب عسكري..
وإلا فما معنى تأخير إعلان تنحي بوتفليقة، ريثما يتم تدبير الأمور مع فرنسا والقوى الإقليمية، وحكومات عربة معروفة للجميع، لإخراج الكرة من ملعب الحراك الشعبي والقوى الوطنية، ثم بعد ذلك يظهر رئيس الأركان مشيرًا إلى أن مقاليد الأمور ينبغي ألا تخرج من يد الجيش، وأن الكلمة ستظل له أولا وأخيرًا...
ومن ثم، فإن "حركة رئيس الأركان" ترمي في أحد أبعادها إلى التلاعب بنصوص الدستور وتفسيره نصوصه وفق قواميس عسكرية... وتوظيف ذلك الدستور لخدمة أصحاب المصالح والأجندات الخارجية...
ولسوف يظهر محللون يُهَوِّنُون، بقصد أو عن غير قصد، من شأن الموقف الجزائري وتطوراته... وسينبري أولئك المحللون في ترويج الأوهام والأماني الخادعة والآمال السرابية التي لا تزيد الناس إلا بُعدًا عن المشاركة في صناعة واقع وصياغة مستقبلهم...
وفي تقديري أنّ الاستهانة بمآلات المشهد الذي يتصدره الجيش في الجزائر لا يعني سوى الإصرار على تأخير كلمة الشعب... وتمييع المسار المدني... إنما تنذر بخطر سيهدد المنطقة بكاملها...
لا أقول إنَّ أوضاع التسعينيات ستعود، لا سمح الله، ولكن السيادة العسكرية على الشعب الجزائري ستعود بصورةٍ أو بأخرى... وسيخرج الشعب الجزائري هو والقوى المدنية الوطنية من المعادلة لصالح قوى أوروبية وإقليمية...
وستبقى الجزائر على مرمى الأبصار الإقليمية الطامعة في مقدراتها الاستراتيجية والاقتصادية تحت عنوان الاستثمارات الخارجية... لتبقى سوقًا صهيونيًّا مفتوحًا على حساب السيادة الوطنية والأمن القومي...
لن أتناول مخاوف اللاعبين الإقليمين وفرنسا من شبح عودة الإسلاميين... ولن أتحدث عن مخاوف الجبهة المضادة للربيع العربي من انتقال «عدوى» النموذج الجزائري الراقي إلى بلدانها...
كما لن أترك قلمي لمنطق التخوين التفتيش في النوايا... فالواقع ينطق بلسان مبين لا يترك مجالاً للتأويل... ودروس الماضي القريب لم تزل متشبثةً بذاكرتنا المؤرقة بمرارات الفتن والمآسي والأزمات... جراءَ ادِّعاء الوصاية على الشعوب وكأنها قاصرة فاقدة الأهلية والإنسانية...
إنَّ الذين لم يزالوا يحسنون الظنَّ في كلمة رئيس الأركان الجزائري، ويتأولونها على محمل الظنَّ الحسن... أقل ما يمكن أن يوصفوا به: أنهم لم يعوا الدروس والتجارب في العالم أجمع...
إن تجارب الشعوب وتياراتها الوطنية المدنية مع المؤسسة العسكرية العربية في غير بلدٍ لا تبشر بخير ولا تؤشر إلى انفراج لا بالحوار ولا بحسن الجوار... وهو ما قد يطيح بأمل هذه الشعوب في الوحدة والأمن والديمقراطية والاستقرار... فيما أتمنى أن تخيب ظنوني، وأن تذهب هواجسي ومخاوفي ادراج الرياح!...
إنَّ القوى الوطنية الجزائرية ما لم تع الدرس جيدًا فترقي إلى مستوى المسؤولية التاريخية والأخلاقية والسياسية سواءً في جِدَّةِ خطابها أو في توحُّدِ مواقفها...
وما لم يستوعب الشعب الجزائري دروس الواقع المحيط فيصمد أمام التحديات بإصرار وثبات على مبادئه ومطالبه المشروعة! فقد تعود الجزائر إلى الوراء عقودًا... حفظ الله الشعب الجزائر وسائر شعوبنا من كل مكروه....