تؤشر مختلف الدنياميات السياسية المتسارعة في الجزائر أن الجيش لا يزال يمسك بزمام المبادرة، وأنه قدم مبادرة بوتفليقة كبالون اختبار، أو قربان، تحرقه موجات الحراك الشعبي المتصاعدة.
لحد الآن، تبدو مناورات الجيش متدرجة ومنسجمة، فبعد التلويح بنهج الصرامة، واتهام جهات تهدد استقرار وأمن الجزائر، عاد لمغازلة الحراك الشعبي، والحديث عن تناغم رؤية الجيش ورؤية الحراك، وأنه دائما يقوم وفقا لمهامه، ويمثل «الحصن الحصين للشعب والوطن في جميع الظروف والأحوال» وأنه يدعو لـ «التحلي بالمسؤولية من أجل إيجاد الحلول في أقرب وقت».
يحاول خطاب الجيش الجزائري أن يرسم صورة المؤسسة المهنية المحايدة، التي لا تتدخل في السياسة، والتي تشتغل وفقا لمهامها، وتضع عينها فقط على الأمن والاستقرار، وأنها دائما وأبدا ترعى مصالح الشعب وتطلعاته، وأن المشكلة في جهة أخرى غير الجيش، وأنه مستعد لاحتضان الحلول التي تنهي الأزمة.
خطاب لا يعني إنهاء ورقة بوتفليقة بالكامل، لكنه يعني الاستعداد للتخلي عنها في الحالة التي يكون الإصرار عليها مكلفا، فهي على كل حال، ورقة للتفاوض لا يزال بإمكان الجيش الاستثمار فيها لتعزيز موقعه الحيادي من جهة، ونفي تدخله في السياسة، ولأخذ مسافة كافية من الزمن لترتيب أوراقه في الداخل ومع الخارج.
المفارقة أن البعض لم يلتفت لرسائل بوتفليقة في رسالته الأخيرة، فتم التركيز على المناورة التي التجأ إليها لتبرير التمديد لحكمه إلى حين انتخاب رئيس جديد للجزائر، في حين أن قواعد التفاوض السياسي التي تجري على الأرض، تؤشر على أن قصد صناع القرار السياسي من مبادرة بوتفليقة، هو توجيه الرأي العام إلى استنكار قضية التمديد، دون النظر في مضمون المبادرة التي تم تقديمها، وذلك حتى يكون الاستغناء عن بوتفليقة ثمنا لقبول العرض السياسي الذي رسم خارطة طريق السياسة في الجزائر على ألقل من زاوية الشكل.
لحد الآن، الجيش لم يبد رأيه فيما اقترحه بوتفليقة من إجراءات انتقالية، فقط أعرب عن أمله في توصل الجزائريين إلى حلول في أقرب وقت.
اهتمام الجيش بالوقت بدل مضمون الحل المقترح، تعني أن زمن بوتفليقة رهين بقدرة مبادرته على وقف الحراك، وأن الجميع بعد احتراق ورقته سيكون تحت ضغط سيف الوقت الذي سيضعه الجيش سرا أم علنا، وأنه في اللحظة التي سيقدر فيها أن الوقت يسير في اتجاه معاكس لتطلعاته أو لاستقرار البلد وأمنه، فإنه سيتحمل مسؤوليته في إيجاد حل للوضع بنفسه على نفس الطريقة المصرية. بعض قادة الأحزاب في الجزائر ـ بما في ذلك أحزاب الائتلاف الحاكم-فهموا جيدا اللعبة، وبادروا إلى إعلان دعم الحراك، فأعلن منسق هيئة تسيير حزب جبهة التحرير الوطني الحاكم معاذ بوشارب عن موقف حزبه الداعم للحراك الشعبي في الجزائر، فيما صدر عن قيادي التجمع الوطني الديمقراطي العضو في الائتلاف الحاكم، موقف أكثر راديكالية، معتبرا «ترشيح بوتفليقة لعهدة خامسة وهو في وضعه الصحي الحالي كان بمثابة فقدان للبصيرة» وأن «قوى غير دستورية سيطرت على السلطة في الأعوام القليلة الماضية خارج الإطار القانوني».
وعلى الرغم من الجدل والانقسام الذي ثار داخل الحزب على خلفية هذه التصريحات، فإنه يستبعد تفسير مرور التصريح في التلفزيون الجزائري بفرضية المزاج، ويرجح أن ثمة حاجة لمرور هذا التصريح بهذه الصيغة وتلك الحدة، وأن المقصود هو إعادة ترتيب الوضع بما في ذلك جماعات المصالح بما يخدم النظام الجديد التي تسعى قيادة الجيش إعادة رسم معالمه ومؤسساته وشخصياته.
هل يعني ذلك أن الجزائر بصدد تكرار التجربة المصرية؟
من السابق لأوانه استخلاص سيناريو بهذا الاتجاه، لكن المعطيات الجارية تؤكد بأن الأمر سيكون مختلفا في بعض التفاصيل المهمة.
فمن جهة، فالجيش ليس أمامه حركة ديمقراطية وصلت إلى السلطة ويجد صعوبة في الإطاحة بها، ويسعى للتحالف مع جزء من الحراك أو صناعة الشارع لتحقيق هذا التطلع، وإنما هو أمام حراك شعبي ضد سلطة قائمة، ويريد فقط أن يوجه الحراك في اتجاه آخر غير الجيش.
ومن جهة ثانية، فالحراك الجزائري لم ينهض على خلفية إعادة صياغة النظام السياسي، وإصلاح أعطاب السياسة، وبشكل خاص، دور الجيش فيها، وإنما قام على خلفية رفض العهدة الخامسة، وهو اليوم يستأنف زخمه بمطلب رفض التمديد، بما يعني أن زمام المبادرة لا تزال بيد الجيش، وأن الحراك لا يهدد مصالح الجيش في السياسة والاقتصاد.
ومن جهة ثالثة، فإن الجيش لا يزال يفاوض بورقة بوتفليقة، ومجرد تحقيق مطلب الحراك بإحراق هذه الورقة، يمكن أن يساعده على الإقناع بخارطة الطريق التي تضمنها رسالة بوتفليقة أو خارطة طريق أدنى منها، إذ ليس المهم أن يتم اقتراح ندوة تتخذ القرارات الحاسمة لإحداث القفزة النوعية، أو تعديل دستوري مصادق عليه باستفتاء شعبي، ولا حتى انتخاب رئيس جديد للجزائر، وإنما الهم الآليات التي سيتم اعتمادها لإقرار تشكيلة الندوة، واعتماد تعديلات الدستور، والنظام الانتخابي الذي يصنع تشكيلة الحكم الجديدة، وهي الأوراق التي لا تزال كلها في يد الجيش يستطيع من خلالها إعادة صناعة السياسة بنفس المعايير السابقة، مع تغيير النخب فقط.
ومن جهة رابعة، لا يبعثر الموقف الدولي الصورة السابقة، ولا يبدو في موقف روسيا ما يبرر ذلك، فالحدة التي تميز بها تصريح لا فروف، لا تعني بالضرورة بعث إشارات إلى فرنسا، بقدر ما تعني بعث رسائل تنبيه للتدخلات الأجنبية التي تحاول ترتيب الوضع بشكل لا يراعي مصالح روسيا في الجزائر.
تركيب هذه الخلاصات، أن الجيش الجزائري، لا يكتفي فقط بالإمساك بزمام المبادرة، ولكنه أيضا يحاول أن يعيد إنتاج هيمنته على المشهد السياسي، من خلال الاستثمار في قضيتين: إعادة صوغ نظام سياسي جديد في الجزائر، وتكريس استثنائية الجزائر وجيشها في التعاطي مع الحراك السلمي.
في الاستثمار الأول يربح الجيش الجزائري تجديد شرعة هيمنته على السياسة بنخب جديدة، أما في الاستثمار الثاني، فيحاول أن ينتزع من المغرب ذكاءه الاستراتيجي في تعاطيه مع حراك 20 فبراير، ويصنع استثنائية الجزائر في صناعة جوابها على الحراك الشعبي.
عن صحيفة القدس العربي