لا يمكن استبعاد احتمال اللجوء إلى القمع
الشديد، ولكن نظراً لأن المتظاهرين تعاملوا باحترام مع الشرطة فإن ذلك قد يعني أن
ثمة ما هو أعمق
عندما أعلنت الجزائر قبل شهرين أن الانتخابات
الرئاسية ستجرى يوم الثامن عشر من إبريل / نيسان، ما كان أحد ليخمن أن الأوضاع
السياسية في البلاد ستتحول إلى ما يشبه سيناريو الفيلم الكوميدي البريطاني مونتي
بايثون.
فقد أشعل قرار الرئيس عبد العزيز بوتفليقة
الترشح لعهدة خامسة احتجاجات عارمة اجتاحت
البلاد لأسابيع – موجة بشرية حجمها لم تشهده البلاد منذ إعلان استقلالها عن فرنسا
في عام 1962.
الفطنة السياسية
يحتل الناس العاديون موقع الصدارة الآن بعد أن
همشوا على مدى ستة عقود من الحكم العسكري منذ تلك اللحظة في عام 1962 التي انتهى
فيها النضال من أجل الاستقلال من فرنسا (أو الثورة الجزائرية).
يتضح من الهتافات والشعارات التي أطلقها الناس
خلال الأسبوعين الماضيين أن الجزائريين يريدون للثورة – أي القتال ضد فرنسا الذي
تمخض عنه استقلال الجزائر - أن تعود من جديد.
لقد تعلم المتظاهرون درساً واحداً من
الانتخابات التي أجهضت في عام 1992، بعد أن قام الجيش الجزائري بانقلاب للحيلولة
دون فوز جبهة الإنقاذ الجزائرية بجولة ثانية لما كان سيعتبر أول انتخابات
ديمقراطية في البلاد، ومن الحرب الأهلية التي عقبت ذلك.
كما تعلموا درساً من الثورة المضادة التي قمعت
وأجهضت الربيع العربي (فيما عدا تونس): وهو ألا يدخلوا في مجابهة مع الشرطة وقوات
الأمن، بل يمازحوهم ويدخلوا المرح إلى نفوسهم.
كانت الشعارات والهتافات التي أطلقت خلال
الأسبوعين الأخيرين على درجة من الفطنة السياسية والذكاء وفي بعض الأوقات مشوبة
بالسريالية. لم يحدث عنف، واشتمل الجمهور على رجال ونساء من كافة الطبقات والأماكن
والأعمار.
ما من شك في أن الشقاق المرير بين الإسلاميين وخصومهم،
والذي أدى إلى الحرب الأهلية، قد اختفى. كل ما يريده الجزائريون اليوم هو تقليص
الفساد وتعزيز سيادة القانون والحريات وتوفير مزيد من الوظائف. ففضيحة الجزائر
الكبرى تكمن في أن هذا البلد الثري بنفطه وبشبابه المتعلم يعاني ربع سكانه ممن هم
دون سن الثلاثين من البطالة.
على النقيض مما يؤججه بعض "الخبراء"
الغربيين إذ يتنقلون من ندوة إلى أخرى، فإن التطرف الإسلامي ليس هو الهاجس الذي
يؤرق المغرب العربي. الكثيرون من الخبراء والمراقبين الأوروبيين والغربيين مازالوا
يخوضون حروب الأمس.
هدف للسخرية والاستهزاء
لا يمكن استبعاد احتمال اللجوء إلى القمع
الشديد، ولكن نظراً لأن المتظاهرين تعاملوا باحترام مع الشرطة فإن ذلك قد يعني أن
ثمة ما هو أعمق. الكثيرون من ضباط الجيش ليست لديهم رغبة في ممارسة القمع، ناهيك
عن أن يتدخلوا في السياسة، كما أنهم في نفس الوقت يسوؤهم جداً أن تصبح بلادهم
هدفاً للسخرية والاستهزاء.
السيناريو الآخر المحتمل هو أن يستلم مقاليد
الأمور رئيس انتقالي لعدة شهور أو لسنة واحدة إلى أن يتم إجراء انتخابات حرة
ونزيهة. ولكن من ذا الذي عساه أن يقوم بهذا الدور؟ على الرغم من أن معظم الشباب في
البلاد لا يعرفون اسمه – وذلك نظراً لحظر ظهوره في القنوات التلفزيونية المملوكة
للدولة لما يقرب من ربع قرن – إلا أن مولود حمروش قد يكون الرجل المناسب لتلك
المهمة.
حمروش، الذي يبلغ من العمر خمسة وسبعين عاماً،
عقيد سابق في جيش التحرير الوطني في الجزائر، وهو الذي ترأس الحكومة الإصلاحية في
الفترة من 1989 إلى 1991، وهي حكومة لم تشهد البلاد لها مثيلاً قط. لم يتلطخ اسمه
بقيد أنملة من فساد. وكنت قد قابلت حمروش لأول في عام 1974 على مائدة السفير
الأخضر الإبراهيمي، والتقيت به بشكل منتظم مرارا وتكراراً منذ ذلك الحين.
المرح وإنكار الذات علامة يتميز بها حمروش، وهي
صفة يشترك معه فيها العديد من المتظاهرين. وعلى النقيض من كثير من الزعماء
الجزائريين –ناهيك عن الزعماء المغاربة والتونسيين – لا يملك حمروش مقر إقامة في
فرنسا، وليس لديه من المال ما يثير الشبهة.
خطوط التصدع المتحولة
لا يمكن لأحد التنبؤ بما سيحدث في الجزائر، فلم
يكتب النص أحد مقدماً، ولا مفر من أن يبرز بعض الفاعلين الرائدين في نهاية المطاف.
أما اليوم، فمازال الطاقم يتكون من الملايين.
الأسابيع القادمة كفيلة بأن تكشف لنا عن مدى ما
تعرضت له الزمرة التي تتحدث باسم بوتفليقة وتعمل نيابة عنه من أضرار أو ربما حتى
من انكسار.
يبدو أن هذه الزمرة قد أضاعت النص، وهي تشتمل
على شقيقي بوتفليقة سعيد وعبد الرحيم، والمزهو المتعجرف علي حداد، رئيس نقابة
الموظفين، ورئيسي وزراء سابقين هما أحمد أويحيى وعبد الملك سلال بالإضافة إلى رئيس
هيئة الأركان الجنرال أحمد قايد صلاح الذي عينه بوتفليقة متجاوزاً زملاء أقدم منه
في الخدمة وأولى منه بهذا المنصب.
ربما شعرت فرنسا وجيرانها الأوروبيون بالقلق
إزاء احتمال فقد الجزائر للاستقرار، ولكن من المهم تذكر أن فرنسا والاتحاد
الأوروبي والولايات المتحدة ليس لديهم الكثير مما يقولونه بشأن النتيجة، ناهيك عن
أن الاستقرار الذي شهدته الجزائر منذ انتخاب بوتفليقة في عام 1999 لا يمكن أن
يستمر إلى الأبد.
قد تفضل العواصم الغربية الاستبداد على الفوضى،
إلا أن الفوضى لا تصف بالضرورة مستقبل الجزائر. الذي تغير منذ مطلع التسعينيات
ومنذ الفشل الذي منيت به مشاريع الإصلاح في الماضي هو أن خطوط التصدع تحولت وبات
شباب الجزائر أكثر نضجاً. لا مفر من أن يأتي التغيير، وسيكون من المفضل أن يأتي
مبكراً بدلاً من أن يأتي متأخراً.
تكفي نظرة سريعة إلى الخارطة لفهم أن جزائر
أكثر حداثة وأقل فساداً بقيادة جيل جديد سيكون لها أثر عظيم على جيرانها. يمتلك
الجزائر حدوداً متوسطية مع تونس وليبيا والنيجر ومالي وموريتانيا والمغرب بما
مجموعه 1300 كيلومتراً، وبعض هذه الحدود تعاني من مشاكل شديدة من حيث انعدام
الاستقرار السياسي والإرهاب.
يشكل أكبر بلد في أفريقيا مسمار العجلة لأمان
أعظم في شمال غربي القارة وفي غربي المتوسط.