في العاصمة الروسية موسكو، وليس بعيدا عن وارسو أرسلت روسيا
البوتينية رسالتها إلى المؤتمرين في العاصمة البولندية. رسالة مفادها أن ما تحضره
واشنطن لمنطقة الإقليم في المدى المباشر والمرئي هو الحرب ولا شيء غير الحرب. حرب
من نوع خاص. الحرب التي لا بد منها إذا كان هذا الإقليم يريد أن يعيش، وأن يبقى
ويستمر تحت الكنف الأمريكي، وفي حماية الولايات المتحدة.
حرب
يقوم بها العرب، أي الحرب المدفوعة الثمن سلفا. ويمولها العرب، وتنفذها إسرائيل
والولايات المتحدة عَبر الأرض العربية، وفي إطار شامل من الدعم «الدولي» لهذه
الحرب، حرب استنزاف وقضم وحصار واحتواء.
هذه
الحرب إذا هي بداية تبلور «للحلف الجديد» الذي تراه واشنطن لهذا الإقليم.
إسرائيل
والعرب والولايات المتحدة ضد إيران، وضد الشعب الفلسطيني، وضد كل من لا يوافق على
الانخراط التام في هذا الحلف أو التماهي التام مع سياساته.
وهذا
المؤتمر سيعيد تحديد الإرهاب، وتوصيفاته بحيث تصنف كل محاولة لمقاومة إسرائيل حتى
ولو كانت بمستوى مقاطعة شراء علبة سردين مصنوعة في المستوطنات الإسرائيلية بأنها إرهاب.
وكل
تظاهرة سلمية ستعتبر إرهابا، وكل مطالبة بالحق والعدالة والالتزام بقواعد وسلوكيات
القانون الدولي سيوصف بالإرهاب.
كل
مؤسسة في هذا العالم إذا ما التزمت بمواثيق الأمم المتحدة ومعاييرها للانتهاكات
التي ترتكب ضد الشعب الفلسطيني ستنعت بالإرهاب، وكل بندقية أو سلاح يحمله أحد في
هذا الإقليم لتحرير أوطانه وأرضه سيتم التعامل معه باعتباره إرهابا.
أي
سلاح تمتلكه إيران هو للإرهاب، وكل طلقة موجودة في سورية هي إرهاب، وكل محاولة
لإعادة بناء الجيش السوري هي إرهاب، وحتى محاولة إعادة بناء الجيش العراقي هي إرهاب.
إسرائيل
ستكون الذراع الأقوى في التصدي لهذا «الإرهاب» والولايات المتحدة هي التي ترعى
وتقود مسيرة مكافحة الإرهاب، والعرب ملحق رئيسي من ملاحق مكافحة الإرهاب، والمال
العربي سيغدق في سبيل القضاء على الإرهاب.
من
يقف ضد «صفقة القرن» إرهابي، ومن لا يوافق على أن تكون القدس عاصمة إسرائيل
هو داعم للإرهاب، ومن المفترض أن ينتبه جيدا قبل أن يصبح إرهابيا مكشوفا. إيران
تموّل الإرهاب وترعى الإرهاب، ولهذا فإن التصدي للإرهاب يبدأ بضرب ايران ومحاصرتها
والتحضير للحرب عليها.
كوشنير
بنفسه قادم لوارسو من اجل أن يبدأ بعرض «صفقة القرن»، وأن يربط واقعيا ما بين رفض
الصفقة وما بين الإرهاب، وما بين أمن إسرائيل ومكافحة هذا الإرهاب.
وبالمقارنة
مع ما يجري في وارسو فإن كل المحاولات السابقة لم تكن إلاّ لجس النبض، للوصول إلى
وارسو.
وارسو
ليست مجرد محطة، وليست مجرد تظاهرة إعلامية، وإنما هي البداية العملية الأولى،
واللبنة التي تراها الولايات المتحدة التي سيبنى عليها مدماك الحلف الجديد، على
طريق الصرح الأكبر الذي يخطط له ترامب بالتعاون الوثيق مع نتنياهو، ومع أقطاب
يمينية رجعية في هذا العالم.
لا
أتحدث هنا عن نجاح ترامب في إنشاء هذا الحلف، وإنما عن نواياه وأهدافه، ولا أتحدث
عن انخراط إسرائيل في حلف واحد مع العرب وإنما عن إعادة إحياء هذا الحلف في وارسو
وعَبر شُبّاك العاصمة البولندية.
لكن
وارسو محطة فشلت قبل أن تبدأ، ولا عزاء أبدا للسيد ترامب ولا لصديقه نتنياهو.
لماذا؟
أولا،
لأن العرب الذين يرون في إيران خطرا مباشرا عليهم ليسوا على قلب رجل واحد من زاوية
أن الحرب هي الوسيلة الوحيدة للتصدي لهذا «الخطر».
وثانيا،
لأن العرب الذين يودون التصدي لإيران لا يملكون القدرة على التحالف مع إسرائيل
رسميا قبل حل «ما» للقضية الفلسطينية.
وبما
أن ترامب وصديقه نتنياهو لا يملكان ولا يرغبان بحل «ما» لهذه القضية، وإنما يملكان
الإرادة والرغبة والتصميم لتصفيتها فقط فإن هذا الحلف هو حلف متخيل أكثر من كونه
واقعيا وقابلا للحياة.
وثالثا،
لأن الولايات المتحدة لو أرادت التصدي لإيران ومحاربتها فإنها مع إسرائيل لا تحتاج
العرب في شيء، وإذا كانت عين البيت الأبيض على الأموال العربية، وعلى تمويل هذه
الحرب، فالعرب جاهزون للتمويل ومستعدون له بصورة كاملة إذا تركت لهم حرية أن لا
يظهروا بالصورة المباشرة مع نتنياهو، الذي يرفض أن يعطي شيئا واحدا جديا لحل
القضية الفلسطينية.
ورابعا،
نتنياهو نفسه يريد من العرب أن يكونوا معه في حلف واحد دون أن يساعدهم بشيء للولوج
إلى هذا الحلف. بل ويمكن القول إن شرط نتنياهو الأول لهذا الحلف هو أن يقبل العرب
به لحماية أنظمتهم، وليس حل القضية الفلسطينية.
خامسا،
ليست إيران ولا أتباع إيران قوى ضعيفة يمكن الانقضاض عليها، بدليل أن الولايات
المتحدة تريد أن تبني تحالفا عالميا ضدها.
ولو
كانت إيران ضعيفة لما احتاج الأمر إلى كل هذه اللجّة والضجّة التي يثيرها ترامب
ونتنياهو وبعض العرب.
وسادسا،
الولايات المتحدة إذا سقطت إيران ستكون الخاسر الأكبر في هذا الإقليم لجهة بيع
الأسلحة وابتزاز العرب وتبرير الدفاع عن أمن إسرائيل.
أقصد
أن المسألة لا تتعلق بالحرب الحقيقية، وإنما بإقامة حلف تتحول بموجبه إسرائيل إلى
جزء فاعل من هذا التحالف جنبا إلى جنب مع العرب.
حلف
يواجه إيران ولا يشن الحرب الفعلية عليها، حلف يجمع العرب مع إسرائيل من أجل إنهاء
القضية الفلسطينية وتصفيتها.
وارسو
هي محاولة أمريكية جادة جدا لإنشاء هذا الحلف وموسكو فهمت الرسالة وبدأت بدق ناقوس
الخطر من خلال دعوة الفلسطينيين للصمود والتيقظ.
موسكو
ستعقد وارسو موازية، ومقابلة لأننا دخلنا مع ترامب في حرب باردة جديدة.
الاصطفافات
ليست نهائية، وليست محسومة، وخارطة التحالفات أعقد مما تبدو عليه الأمور في عقل
ترامب. ونتنياهو وبعض المتطيّرين العرب.
وارسو
محطة خطرة ولكنها ساذجة، وموسكو البوتينية تعرف كيف تحبطها.
نعم
هي الحرب، حرب من نوع خاص.
حرب
خاسرة لأمريكا إذا عرف الفلسطيني كيف يواجهها موحدا، واذا تخلّى الإيراني عن أطماع
لا طائل من ورائها، وإذا ما أعيد ترتيب أوراق هذا الإقليم على قاعدة إلحاق الهزيمة
بالمشروع الأمريكي.
أما
العاصمة البولندية وارسو، فلن تنال سوى شرف تقديم الأطباق الشهية، على حدّ تعبير
كاتب بولندي لا يعوزه الذكاء.
عن صحيفة الأيام الفلسطينية