حددت القواميس والمعاجم الإلكترونية عام 2018 كلمات بعينها بوصفها الأكثر بحثا خلال العام. فمثلا ذكر قاموس «أكسفورد» كلمة «سام»، فيما أشار قاموس «ميريام ويبستر» إلى كلمة «عدالة»، وقاموس كولينز إلى كلمة «الاستخدام الواحد». لكن بالنسبة لي أعتقد أن كلمة «سوء الإدارة» لم يبحث عنها أحد، رغم أن عام 2018 شهد العديد من حالات سوء الإدارة في عدد من الدول، تعد الأسوأ في التاريخ الحديث.
تتجلى
أوضح أمثلة سوء الإدارة فيما نسمعه من أخبار كل يوم، فمثلا يحتل الرئيس الأمريكي
دونالد ترمب قمة الرسم البياني، بعد أن تخطى الحدود في محاولاته إقناع الأمريكيين
بأن انتخابه جاء في صالحهم؛ فقد تلاشى انتعاش أسواق المال التي طالما تباهى بها
ترمب، والعجز المالي يعد الأعلى منذ عام 2012، ورغم الحروب المالية، فإن العجز
التجاري يعتبر الأكبر خلال 10 سنوات.
أيضا وصلت عمليات الإحلال والتبديل في طاقم العمل في البيت الأبيض إلى مستوى هائل، حيث
جرى استبدال نحو 65 من فريق العمل الأول لترامب منذ انتخابه بدءا من يوم 14 ديسمبر
(كانون الأول)، بحسب إحصائيات معهد «بروكينغز»، ناهيك عن أعضاء مجلس الوزراء (جرى
استبدال 12 من إجمالي 24 مسؤولا، وها قد انضم وزير الدفاع جيمس ماتيس إلى قائمة
المغادرين ليصبح رقم 13). يجد ترامب صعوبة كبيرة في ملء المناصب الشاغرة، في الوقت
الذي لم يجد فيه عدد من المستقيلين والمقالين غضاضة في انتقاد الرئيس، وهو إن حدث
في مؤسسة تجارية لتراجعت أسهمها في الحال.
لم
يتسبب كل ذلك بخدش لترامب نفسه، لكن الخسارة التي لحقت بدور الولايات المتحدة في
العالم بدأت تتضح معالمها. ففي كل مكان تقريبا (مع وجود بعض الاستثناءات البسيطة
مثل إسرائيل وكوريا الجنوبية) تراجعت النظرة الإيجابية إلى الولايات المتحدة، وبدأ
الناس يقتنعون بأنها لا تبالي بمصالح غيرها من الدول، وبدأت التحالفات تنقسم، وبدأ
العالم متعدد الأطراف يئن.
أيضا من نماذج سوء الإدارة الواضحة نموذج المملكة المتحدة. فقد بدت حكومة تيريزا ماي
معصوبة العينين وغير قادرة على رؤية واقع النمو الاقتصادي الذي تلاشى وبطء
المشاريع الاستثمارية وازدياد العجز في الميزان التجاري، وقد أصرت حكومة ماي على
سحب البلاد خارج منظومة الاتحاد الأوروبي وعلى التباهي، بشروط الخروج التي رفضها
الاتحاد الأوروبي في البداية.
خارج
هذين النموذجين بالغي الوضوح لسوء الإدارة، بدا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون
نموذجا عظيما للقيادة الأوروبية بخططه الإصلاحية الكبيرة ورؤيته الشاملة لاتحاد
أوروبي متماسك. لكن مع نهاية العام تراجع عما بدأ فيه في مواجهة ما بدا أنه أكبر
ثورية شعبية تجتاح أوروبا عبر «فيسبوك» حتى اليوم. فاحتجاجات «السترات الصفراء»
التي بدأت اعتراضا على زيادة طفيفة في ضريبة الوقود، سرعان ما تحولت إلى حركة في
مواجهة الصفوة، وانتهت بتقديم ماكرون تنازلات بقيمة 12.5 مليار دولار سنويا، ورغم
ذلك تراجعت شعبيته إلى 27 في المائة في استطلاعات الرأي العام.
هناك
نموذج آخر لسوء الإدارة تمثل في المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، التي قضت عاما كاملا في مواجهة ثورة داخل حزبها «الاتحاد الديمقراطي المسيحي»، وكذلك في شقيقه
الحزب «البافاري». نجح المعترضون المحافظون في شل الحكومة، مطالبين بتشديد سياسات
الهجرة، وكانت النتيجة استنزاف قدرات ميركل للدرجة التي بدت بعدها كمن لا يبالي
بما يجرى حوله، واضطرت إثر ذلك إلى التخلي عن زعامة الحزب.
لم
يكن الوضع أفضل حالا في غيرها من الديمقراطيات الغربية. ففي إسبانيا، بدت حكومة
ماريانو راخوي كمن تئن تحت وطأة فضائح الفساد، وانتهى الأمر بأن جلس رئيس الوزراء
المستقيل في أحد المطاعم ليوم كامل، بعد أن لم يسمح له منافسه الاشتراكي بيدرو
شانشيز بالجلوس على مقاعد البرلمان، فيما يشبه الانقلاب البرلماني.
إن
نقص القيادات الكفؤة الواعية الخالية من الغطرسة في عالم اليوم ربما يكون من باب
المصادفة. لكن لو أن هذا هو الواقع العادي الجديد، فإن الحياة في عالم اليوم
ستتطلب مهارات جديدة من الناس العاديين، منها اليقظة وسهولة التحرك في حالة تدهور
الحال بدرجة كبيرة، والمهارة الثالثة هي القدرة على تنظيم احتجاج بناء.
إن
سوء القيادة ليست مجرد شيء نقرأ عنه في مواقع الأخبار فحسب، فربما تشير إلى تدهور
المؤسسات، سواء العالمية أو المحلية، التي تشكل حياتنا.
عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية