تحولت الأزمة السورية من المطالبة بالتغيير إلى حرب واسعة النطاق، وذلك بسبب التدخلات الإقليمية والدولية، وباتت البلاد ساحة لحرب بالوكالة طويلة الأمد.
طبقاً لقراءة ليبرالية يسارية عفى عليها الزمن، ثمة حرب حساب تدور رحاها في مواجهة الإمبريالية. من نافلة القول الإشارة إلى أن جميع اللاعبين يقاتلون ضد الإرهاب في سوريا، وقد اختار كل واحد منهم مجموعة إرهابية واحدة على الأقل لينبري لقتالها.
لا يقتصر الأمر على كون الدولة الإسلامية أم جميع المجموعات الإرهابية، بل هي أيضاً تأشيرة الدخول مدى الحياة للقوى الأجنبية حتى تحافظ على بقائها داخل سوريا. ورغم ما يبدو في الظاهر من مبررات للتدخل في البلاد إلا أنه تم تحويل الرواية الخاصة بالأزمة من كونها تتعلق بمعاناة شعب مقهور إلى مشكلة إرهاب فقط لا غير – مما تركنا في نهاية المطاف مع سوريا بلا سوريين.
تدمير البنية السكانية
كان السوريون باستمرار العنصر المهم الغائب في جميع الاجتماعات والمفاوضات والصفقات والاتفاقيات – بما في ذلك تلك التي جرت الأسبوع الماضي في إسطنبول – والتي طالبت بحل سياسي لمشكلة سوريا التي دمرتها حرب ضروس ما لبثت تدور رحاها منذ سبعة أعوام. صحيح أن اسم الرئيس بشار الأسد يرد ذكره من حين لآخر حينما يناقش الشأن السوري، فهو مفيد لتبرير التدخلات الروسية والإيرانية في سوريا، ولكن بشكل عام فقد السوريون وطنهم وهويتهم.
إنهم لاجئون، مهاجرون، إرهابيون، مدنيون، ضحايا، مقاتلون معارضون، إلى آخر هذه النعوت. ولن يتسنى لهم استعادة هوياتهم في المدى المنظور طالما بقيت بلادهم تحت حكم الأسد.
يعلم الأسد ويعلم مؤيدوه علم اليقين بأن الرئيس، كممثل لأقلية في سوريا، بات مرفوضاً من قبل الأغلبية الساحقة من السوريين. على الرغم من ذلك يعتبر تدمير النظام للبنية السكانية السورية من خلال التطهير الطائفي مكسباً مهماً تحقق لحكومة الأسد.
ونتيجة لذلك فقد تم تهجير أكثر من نصف السكان السوريين الذين أجبر كثيرون منهم على طلب اللجوء في العشرات من مختف بلدان العالم – حتى باتت تلك هي الصيغة الوحيدة التي تمكن الأسد من البقاء في السلطة.
إلا أن تدمير البنية السكانية على حساب الأغلبية لا يكفي. مازال الأسد بحاجة إلى بوليصة تأمين رخيصة وفعالة وآمنة. ولكي يضمن بقاءه في موقعه فقد حول سوريا إلى ساحة تعج بالقواعد العسكرية التابعة للعديد من البلدان الأجنبية.
سوف يستمر في التمتع بما يسمى دولة أو حكومة عائلته بينما يشعر بعدم المسؤولية عن توفير حتى الخدمات الأساسية لشعبه، ولا أدل على ذلك في هذه المأساة من الأزمة الأخيرة في إدلب.
لقد هدد نظام الأسد قطاعاً واسعاً آخر من السوريين في إدلب بالتهجير. وغم أن مختلف أرجاء سوريا كانت قد شهدت توترات مشابهةخلال السنوات السبع الماضية، إلا أن أحداً لم يسمع صوت السوريين، وإنما سمع العالم عن احتمال حدوث موجة من الهجرة والإرهاب تنبع من إدلب، ولذلك كان رد الفعل العالمي على احتمال وقوع هجوم على إدلب مركزاً على ما قد يترتب عن ذلك من أزمة هجرة جديدة واحتمال اللجوء إلى استخدام الأسلحة الكيماوية.
عصفوران بحجر واحد
بالنسبة للأسد ولمن يؤيدونه بقوة، لا تعني إدلب أكثر من لعبة بدائية يتم خلالها قتل عصفورين بحجر واحد – تدمير المعارضة وممارسة التطهير العرقي في نفس الوقت.
على الرغم من أن جهود تركيا، كلاعب وحيد قاوم بفعالية الرغبة الروسية والإيرانية الجامحة في ارتكاب مجزرة في إدلب، أسفرت عن إبرام صفقة تحظر التحركات العسكرية ضد المدينة ذات الثلاثة ملايين نسمة، إلا أن هوس دمشق بشأن إدلب لم يتبدد.
ليست إدلب مجرد معقل للمعارضة كما تعرفها وسائل الإعلام العالمية، ولكنها الملاذ الآمن لما يقرب من عشرين بالمائة من السكان الحاليين لسوريا. وطالما أن مصطلح "معارضة" يستخدم بالتبادل مع مصطلح "إرهاب"، فلا يوجد ما يضمن إحجام نظام الأسد عن شن هجوم على إدلب.
وبغض النظر عن المعارضة المسلحة التي تعمل في إدلب، ليس بإمكان دمشق إعلان النصر بينما ما يزال ما يزيد عن ثلاثة ملايين سوري يصرون على مقاومة نظام حكمها القمعي، مع ملاحظة أن هؤلاء السوريين يتمتعون بالتواصل مع العالم الخارجي عبر الحدود التركية.
إن وجود إدلب بحد ذاته هو الذي يقطع الطريق على الأسد ومؤيديه أن يحققوا ما يرغبون فيه من حسم لصالحهم. وهو الذي يقض مضجع اللامبالاة العالمية المريحة تجاه سوريا. حينما تعرضت إدلب للتهديد منح المجتمع الدولي الأسد ضوءً أخضر لارتكاب مجازر والقيام بعمليات احتلال طالما امتنع عن استخدام الأسلحة الكيماوية أو تحاشى إحداث موجة جديدة من الهجرة إلى الخارج.
كيف سيرد العالم؟
يبدو أن باقي العالم تخلى عن أي مبدأ أخلاقي أو موقف جيوسياسي أو إنساني تجاه الصراع. كانت تلك هي القصة المأساوية للأزمة السورية منذ البداية. ليس اختزال الأزمة السورية بأسرها في قضية الهجرة عملاً غير مسؤول فحسب، بل إن مما ينافي الحكمة والمنطق تقليص المأساة الكامنة في إدلب إلى قضية أسلحة كيماوية.
بإمكان الاتفاق الحالي الذي أبرمته تركيا حول إدلب الحيلولة دون هجوم روسي سوري محتمل فقط على المدى المتوسط، ولضمان إبرام اتفاق نهائي ودائم في سوريا فإن ثمة حاجة لجذب اهتمام العالم.
وأكثر من يعيق توليد مقاربة جيوسياسية صلبة وإيجاد منصة مناسبة للحل هو حالة الانفصال الغربي عن سوريا واختزال الغرب للأزمة السورية في موضوع الإرهاب.
لا تبعد إدلب عن العالم الخارجي سوى مسافة خمسين كيلومتراً، ولم تعد تركيا راغبة في لعب دور المنطقة المحايدة التي يلجأ إليها المهجرون. إن تدمير إدلب يعني سحق آمال السوريين في إمكانية الاستمرار في العيش داخل وطنهم ويتناقض مع دعوة اللاجئين السوريين إلى العودة إلى بلادهم. إذا لم تكن تلك هي الرسالة التي يريد العالم للناس أن يسمعوها، فإن عليه في الحال أن يطور إدراكاً إنسانياً وجيوسياسياً.
تمثل إدلب الملاذ الأخير للسوريين وللعالم حتى يبقوا الأمل حياً، وكل ما عدا ذلك من سيناريوهات فمن شأنه أن يؤدي إلى سوريا بدون سوريين.
المقال ترجمة خاصة لـ"عربي21" عن موقع ميدل إيست آي البريطاني