ثمة سخرية مضحكة، وأخرى مبكية، وما نعيشه اليوم من تسارع في تطبيع بعض الدول الخليجية غير المرتبطة باتفاقيات سلام مع الاحتلال الإسرائيلي هو بلا شك من تلك الكوميديا السوداء، التي لم تخطر على بال أحد. كوميديا يتفجر معها دفق المشاعر الصهيونية بكاء وضحكا في عواصم عربية.
بكت ميري ريغيف الوزيرة الصهيونية المتطرفة من الفرح عندما عزف السلام الوطني لدولة الاحتلال في أبو ظبي، بعد فوز لاعب "إسرائيلي" في بطولة الجودو المنعقدة في أبو ظبي، وقالت إنها تشعر بسعادة غامرة لأن هذا النشيد يعزف لأول مرة في عاصمة عربية مسلمة.
يقول النشيد الصهيوني هاتيكفا، "أملنا لم يضع بعد، أمل عمره ألفا سنة، أن نكون أمّة حرّة في بلادنا.. بلاد صهيون وأورشليم القدس".
يحق إذن للوزيرة الصهيونية أن تبكي فرحا، وهي الوزيرة المعروفة بمواقفها المتطرفة تجاه العرب والمسلمين، وهي التي ذهبت إلى حفل مهرجان كان السينمائي بفستان يحمل صورة القدس "الموحدة" باعتبارها عاصمة لدولة الاحتلال، بما فيها صورة المعالم الدينية الإسلامية والمسيحية التي تعتبر حتى وفق القوانين الدولية أماكن محتلة من الفلسطينيين، وهي التي اعتبرت أيضا أن صوت الأذان في المساجد يشبه "نباح الكلاب"!
ويحق لنا أن نبكي عروبتنا المقتولة على مذبح التطبيع المجاني، الذي يخالف حتى المبادرة العربية التي ربطت التطبيع بعقد اتفاقية سلام شاملة بين العرب والاحتلال.
وبما أننا في إطار الحديث عن المشاعر، فلا بد أن نذكر الصورة الحميمة المليئة بالمشاعر بين وزيرة الثقافة الصهيونية ريغيف ورئيس اتحاد الجودو الإماراتي، قبل يوم من بكاء الأولى فرحا في أبو ظبي، في الوقت التي تغلق فيها الإمارات أبوابها أمام عرب آخرين بسبب خلافات بينية، هي بالتأكيد أقل خطورة وجذرية- كما نفترض- من الخلافات بين العرب والاحتلال.
بكت ريغيف من الفرح، وربما اختلط الفرح بالحزن، لأن فرحها كان ناقصا ربما لأن المسؤول الإماراتي لم يكن يحفظ كلمات النشيد ولم يردد معها أثناء العزف!!
بعيدا عن "حفلة" المشاعر الصاخبة ضحكا وبكاء في مسقط وأبو ظبي، دعونا نتحدث بعقلانية ونتساءل" ما هو الهدف من مثل هذه اللقاءات التطبيعية؟ وما هو سر الهرولة العربية وخصوصا الخليجية تجاه التطبيع؟
كما أنه الأخطر لأنه على أعلى المستويات السياسية، رئيس حكومة مقابل السلطان، وليس مجرد لقاء "فني" بين مسؤولين من حكومة الاحتلال وحكومة هذه الدولة العربية أو تلك.
ولعل أهمية اللقاء أو خطورته- بالنسبة لنا- هي ما دفعت نتنياهو للضحك بملء شدقيه أثناء لقائه بالسلطان قابوس، وأثناء استعراضه لبعض الخرائط بصحبته في القصر السلطاني.
وهو ما دفعه أيضا ليتفاخر في تصريحات وتغريدات بهذه الزيارة، باعتبارها مقدمة لزيارات بنفس المستوى مع دول عربية أخرى لا ترتبط مع الاحتلال باتفاقيات سلام.
وبعيدا عن "حفلة" المشاعر الصاخبة ضحكا وبكاء في مسقط وأبو ظبي، دعونا نتحدث بعقلانية ونتساءل" ما هو الهدف من مثل هذه اللقاءات التطبيعية؟ وما هو سر الهرولة العربية وخصوصا الخليجية تجاه التطبيع؟ حيث أن لقاءات مسقط وأبو ظبي سبقتها لقاءات رياضية أخرى في الدوحة، ولقاءات سرية، بحسب مصادر أمريكية وإسرائيلية، بين مسؤولين عرب من بينهم مصريون وسعوديون وأردنيون على مستوى القادة الأمنيين في هذه الدول.
تخطئ الحكومات العربية إذن إذا ظنت أنها ستستطيع تغيير الوعي العربي تجاه الصراع مع الاحتلال، كما أنها تخطئ إذا اعتقدت أنها ستحصل على شرعيتها من خلال التطبيع، فالشعوب العربية بوصلتها القلب.. والقلب لا يخطئ أبدا!
أما الهدف الثاني فهو الحصول على شرعية الولايات المتحدة لحماية الحكومات في هذه الدول، ففي الوقت الذي تفتقد فيه كثير من الحكومات العربية للشرعية الشعبية فإنها تسعى لاستبدالها بشرعية الخارج، وبذلك فإنها تسعى للحصول على هذه الشرعية من خلال الوصول إلى قلب واشنطن عبر حب نتنياهو وتل أبيب!
تنسى هذه الحكومات أثناء حمى التطبيع والهرولة نحو تل أبيب، أن الولايات المتحدة وشرعيتها القادمة من الخارج لم تحم أنظمة أخرى عربية وحول العالم عندما يتحرك طوفان الشعوب ضد الحكومات المدعومة من الغرب، كما أنها تتناسى أيضا أن الاحتلال الإسرائيلي هو دولة عنصرية ذات مشروع استعماري موجه بالأساس ضد تقدم أو تطور أي دولة في المنطقة.
وإذا كانت بعض الدول العربية تحاول من خلال الهرولة في "موسم الهجرة إلى تل أبيب" الحصول على دعم الاحتلال لمواجهة خطر إيران، فهي ترتكب هنا أيضا خطأ مزدوجا:
الأول هو أن الولايات المتحدة و"إسرائيل" لن تحارب إيران لأجل العرب، أو لأجل السنة كما يحاول الطائفيون وصف الصراع العربي-الإيراني، بل إنهما سيحاربان إيران فقط عندما تكون هذه الحرب لتحقيق مصالحهما وحماية أمنهما القومي.
الثاني هو أن الطريق الأمثل لمواجهة إيران هو ببناء مشروع عربي نهضوي مقابل المشروع الإيراني، بدلا من منح طهران المبررات لاتهام الدول العربية بفقدان المشروع والبوصلة والارتماء في أحضان الاحتلال والاستعمار، وهو خطاب تستطيع إيران من خلاله إضعاف شعبية وشرعية هذه الدول، لأن الشعوب العربية لا تزال بوصلتها واضحة في اعتبار فلسطين القضية الأولى والمركزية لهم.
تخطئ الحكومات العربية إذن إذا ظنت أنها ستستطيع تغيير الوعي العربي تجاه الصراع مع الاحتلال، كما أنها تخطئ إذا اعتقدت أنها ستحصل على شرعيتها من خلال التطبيع، فالشعوب العربية بوصلتها القلب.. والقلب لا يخطئ أبدا!