كشف سجل المكالمات والمحادثات الشخصية بين بيل كلينتون وبوريس يلتسين، بحسب مكتبة كلينتون الرئاسية، عن علاقة معقدة. فقد أثار الاثنان أسئلة محيرة عن شكل العالم لو أن العلاقة بينهما كانت أكثر تكافؤا.
وقد أفاد خبراء العلاقات الأمريكية
الروسية المعنيون بتدوين الملاحظات عن المحادثات الرئاسية بأن الوثائق التي رفعت
عنها السرية حديثا تنفي رواية الكرملين بشأن روسيا المهانة المخدوعة، التي فات
أوان عودتها إلى الساحة العالمية في عهد فلاديمير بوتين. بالنسبة للقارئ الروسي،
يمكنهم إضافة قصة المظلومية إلى كل ما سبق.
وفي هذا الصدد، فقد ذكر أندري ويس،
أحد كبار العاملين في إدارة كلينتون الذي شغل منصب نائب الرئيس لدراسات «صندوق
كارينجي»، في تغريدته أنه «بقراءة هذه الوثائق، فإنه من السهل رؤية المظالم
والروايات، سواء حقيقية أم خيالية، التي تسيطر على أسلوب تفكير الكرملين في الوقت الحالي».
استطرد ويس بقوله: «لكن بالنسبة للخرافات التي يروج لها الكرملين، هناك مؤشر بسيط على رغبة الولايات المتحدة في إهانة روسيا وتهميشها»، ويشاركه الرأي نفسه ستيفان سيستانوفيتش، وجيس غولدير اللذان خدما في إدارة بيل كلينتون، وحاليا باتا أكاديميين بارزين.
هم ليسوا بالضرورة على خطأ، نظرا
لأن سجل المكالمات يعكس علاقة دافئة تخللها بعض المزاح، وتستند العلاقة هنا إلى
تماثل واضح بين سياسيين شعبويين موهوبين. ربما الاكتشاف المذهل هو أن الرئيس
الأمريكي كان هو من استهل غالبية اللقاءات، سعيا إلى التواصل مع يلتسين بشأن أهم
قضايا الساعة التي شغلت العالم في ذلك الحين.
في إحدى المرات التي هاتف فيها يلتسين كلينتون وهو في حالة غضب كانت في 24 آذار/مارس 1999. عندما شرعت منظمة حلف شمال الأطلسي في قصف يوغسلافيا خلال حرب كوسوفو من دون إبلاغ روسيا. وقال يلتسين: «بالطبع، سنتحدث إلى بعضنا البعض، أنا وأنت. لكن لن يكون بيننا نفس الدافع والصداقة التي كانت بيننا من قبل. سيختفي كل هذا».
استمرت الصداقة على الرغم من كل ذلك ورغم حالة التوتر بينهما. وفي مناسبة أخرى خلال صراع كوسوفو، أجرى كلينتون اتصالا هاتفيا وهو في قمة غضبه بيلتسين، بعدما قامت القوات الروسية باحتلال مطار بريستينا، لكن القائدين كانا يتحدثان بحميمية عند اللقاء لاحقا. وخلال علاقتهما الموثقة، كثيرا ما أظهر كلينتون اعتبارا للرئيس يلتسين. فعندما كانا يختلفان، غالبا بشأن توسع قوات حلف شمال الأطلسي «الناتو» شرقا، لم يرفض الرئيس الأمريكي تفسير كيف يرى الأشياء. وعندما اقترح يلتسين إبرام «اتفاق جنتلمان» شفهي بألا تنضم أي من دول ما بعد الاتحاد السوفياتي إلى حلف «الناتو»، جادل كلينتون جديا بأن الصفقة ستكون سيئة بالنسبة لروسيا. الرسالة، بحسب كلينتون، هي «لا نزال منظمين في مواجهة روسيا، لكن هناك خطا بيننا لن نتعداه. بكلمات أخرى، بدلا من تشكيل (ناتو) جديد للمساعدة في السير تجاه أوروبا جديدة متكاملة وغير مقسمة، يمكن أن يكون لدينا (ناتو) كبير متأهب لارتكاب روسيا خطأ ما».
وقد حاول كلينتون بوضوح إيصال
رسالة إلى يلتسين لتعزيز أواصر الصداقة بدلا من العداء، لكن المشكلة لم تكن في
أسلوب خطاب كلينتون أو تعاطفه المخلص مع شريكه الروسي، بل في ديناميكية السلطة
لديه.
لقد أعد الرئيس الأمريكي الأجندة
لغالبية المحادثات، وكانت أكثر الكلمات تكرارا التي صدرت عن يلتسين في سجل
المحادثات كلمة «أنا موافق». ليس فقط لأن كلينتون الأصغر سنا والأفضل صحة وتعليما،
كان صاحب الكلمة العليا في المحادثات، لكنه أدرك وكذلك أدرك يلتسين أيضا من منهما
يشغل موقع القيادة.
في مناسبتين مهمتين، توسل يلتسين
بوضوح طلب المال من الرئيس الأمريكي. وفي بداية عام 1996، دخل يلتسين في تحد قوي
مع الزعيم الشيوعي جيندي زيغنوف، كان التنافس حاميا لأن الحكومة الروسية كانت
مدينة بمتأخرات رواتب ومعاشات تقاعدية ضخمة. وفي 21 شباط/فبراير، طلب يلتسين من
كلينتون استخدام نفوذ الولايات المتحدة في صندوق النقد الدولي لزيادة حزمة قروض
إلى روسيا من 9 مليارات دولار إلى 13 مليارا. وعندما تحدد ميعاد تقديم القرض بعد 3
سنوات (بقيمة 10 مليارات دولار، وهو أكبر قرض قدمه صندوق النقد الدولي)، التمس
يلتسين من كلينتون تسريع القرض، ولم يكن السبب في طلب القرض سرا. وفي 7 أيار/مايو 1996، قال يلتسين لكلينتون: «أتمنى أن تفهمني بطريقة صحيحة»، واستطرد
بقوله: «بيل، بالنسبة لحملتي الانتخابية، احتاج لروسيا مبلغ 2.5 مليار دولار.
المشكلة أنني أحتاج هذا المال لسداد الرواتب والمعاشات التقاعدية».
من غير الواضح ما إذا كان كلينتون
قد تدخل، لكن روسيا تسلمت 3.8 مليار دولار من صندوق النقد الدولي عام 1996، وصرفت
جميع المتأخرات قبل حلول يوم الانتخابات. المرة الأخيرة التي طالب فيها يلتسين
مساعدة صندوق النقد الدولي كانت عام 1998 في أثناء أزمة ديون روسيا وأزمة العملة.
وانتهى الأمر بأن قدم صندوق النقد مبلغ 6.2 مليار دولار إلى روسيا عام 1998، وهو
المبلغ الذي فاق أي عام آخر. شكلت تلك القروض عونا محدودا، لكن يلتسين لم يلم
كلينتون على عدم مساعدته.
كان الاعتماد على القروض الغربية
التي اعتقد يلتسين أن كلينتون بإمكانه تسريعها - حتى وإن لم تفِ روسيا بشروط صندوق
النقد الدولي - يعنى أن الرئيس الروسي كان عليه قبول أن يتصرف الأمريكان كما يحلو
لهم. وكان لكلينتون مطلق الحرية قي قصف يوغسلافيا والعراق بصرف النظر عن مردود ذلك
على صديقه بوريس وغضبه. وخلال فترة التسعينيات من القرن الماضي، جادل يلتسين ضد
توسع «الناتو»، لكن بحلول عام 1996 لم يكن أمامه سوى التوسل إلى كلينتون لتأجيل السماح
بدخول أعضاء جدد للناتو حتى عام 2000، أو على الأقل إلى حين انتهاء الانتخابات
الروسية.
وكان تفسير كلينتون للأسباب التي
جعلته لا يقدم وعودا بالإبقاء على بعض الدول خارج منظومة «الناتو»، لا يخلو من ود
ظاهر، لكنه انطوى على قدر من الخداع.
وقد كشفت المستندات التي رفعت عنها
السرية والتي نشرتها «مكتبة كلينتون» ما كان يقوله لقادة دول أوروبا الغربية، في
الوقت الذي كان يتحدث فيه إلى يلتسين. ففي كانون الثاني/يناير 1994، أبلغ
كلينتون الرئيس التشيكي فاكلاف هافيل، وفق تدوين ملخص للمحادثة، بأنه لم يعتبر
روسيا تهديدا مباشرا لجيرانها: «والسبب هو ما حدث للجيش الروسي واقتصاد روسيا»،
لكنه أضاف: «بأنه لو عادت عجلة التاريخ إلى الوراء، سننظم أنفسنا ولن ننضم إلى
(الناتو) فحسب، بل سنعمل على تعزيز علاقاتنا الأمنية لاستخدامها كقوة ردع».
لم يكن بوتين على خطأ عندما قال إن
روسيا خلال عهد يلتسين كانت غارقة في الديون وضعيفة عسكريا للدرجة التي جعلت
القادة الأمريكيين يتجاهلون قراراتها إلى حد بعيد، وهي الحقيقة التي أوضحها سجل
مكالمات كلينتون يلتسين.
عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية