من كل السور والآيات القرآنية لك مطلق الحرية في أن تأخذ ما تشاء
وتترك ما تريد، وتفصل على مقاسك الشخصي ما يعجبك منها ويستهويك. لكن من سيرة
الزعيم الأوحد الذي يرقد تحت التراب، فالوضع مختلف تماما. فلا حق لك هنا ولو في
السؤال والبحث الأكاديمي الصرف، أو في الإقدام على أي عمل قد يفهم منه التشكيك في
حبكة الرواية الرسمية وبطلها الخارق.
وإن
حصل وحاولت ذلك فكن متأكدا أن سعيك سيجلب لك المتاعب، وسيجعلك مطوقا بهستيريا
التقديس الجماعية التي ستفقدك قرارك الحر، وتجعلك عاجزا عن أن تتخطى ولو بسنتمتر
واحد حدود النص المكتوب. وتلك واحدة من مفارقات تونس، التي تحررت تقريبا من كل
شيء، لكنها عجزت عن التخلص من أمراض الشخصنة المفرطة لرئيسها الراحل بورقيبة، التي
وصلت بالبعض مرات حد التأليه والعبادة.
فعلى أرضها يمكنك إن أردت أن تبحث في أقدس الكتب السماوية، وتكون
عالما ضليعا فيها، وأن تحقق أمنيتك تلك بأدنى وأقصر جهد ممكن، بل إنك ستكون مطمئنا
إلى أنك لن تسأل عن درجة معرفتك بالقرآن أو حفظك له، أو فهمك لمعانيه، ولن يدقق
الكثيرون في ما إذا كانت تتوفر فيك أصلا كل المؤهلات والشروط الفقهية المطلوبة
لذلك. يكفي فقط أن تكون بحوزتك بعض الأدوات والمظاهر اللازمة للإقناع، كأن تكون
مثلا أستاذا جامعيا معروفا، وتنشر نصا أو نصين خارجين عن السياق المعتاد يتناولان
مسألة تبدو معلومة بالضرورة كشرب الخمر أو البغاء. وتخرج بعدها للإعلام لتقول إنك
توصلت بعد بحوثك وقراءاتك العلمية والشرعية المكثفة والعميقة، إلى أنه لا وجود في
القرآن لما ينص على أنهما، أي شرب الخمر والبغاء محرمان أو محظوران، وان منعهما
وتحريمهما لم يكن سوى عادة أو حتى بدعة أوجدها المتشددون، الذين لا يفهمون سعة
الإسلام وافقه الرحب وانفتاحه الواسع على مباهج الحياة ومتعها، أو أن تفعل مثلما
فعل آخرون وتشكك في أن يكون القرآن مقدسا، وتزعم انه اقتبس ثمانمئة كلمة من
اليونانية، أو أن هناك فرقا بين المصحف والقرآن.
إن
بعضا من مثل تلك المواقف والتصريحات تكفي لتحولك بنظر وسائل الإعلام المحلية وحتى
العالمية، وبين ليلة وضحاها إلى مصلح ومجدد فذ وعالم إسلامي جليل يستحق التقدير.
وستتيقن عندها من أن الرئيس سيستقبلك بنفسه ليشيد بك وبخصالك وقدراتك المعرفية
العظيمة، ويغدق عليك أرفع الأوسمة والتكريمات التي تليق بكبار رجالات الدولة
.فالرئيس يهتم بدوره بالقرآن وبشكل منقطع النظير. إذ لا يكاد يخلو خطاب من خطاباته
الرسمية من بسملة أو آية قرآنية، حتى إن زعم معارضوه أنه يفعل ذلك من باب الحرص
على اتقاء شر الإسلاميين وإظهار أنه مسلم أكثر منهم، أو لمجرد التزويق الشكلي لا
غير، وحتى إن شدد هو بنفسه في خطابه الأخير في احتفالية المرأة، على انه رئيس دولة
مدنية لا مرجعية دينية لها، أو حتى إن حصل وأخطأ في قراءة بعض الآيات، مثلما حدث
العام الماضي حين قلب آية من سورة الإسراء وقرأها بشكل معاكس تماما لمعناها، وقال
في اجتماع حاشد في قصر المؤتمرات بالعاصمة «وقل جاء الحق وزهق الباطل أن الحق كان
زهوقا»، من دون أن ينبهه احد من الحاضرين للخطأ الجسيم الذي ارتكبه عن سهو على ما
يبدو.
كل
ذلك يبقى بتقدير المراقبين والملاحظين مجرد زلات لسان عابرة وبسيطة لا تستحق أن
يعتذر عنها الرئيس في وقت لاحق، أو حتى يتجشم فريق مستشاريه عناء إصدار بيان
تصحيحي باسمه يوضح فيه ملابسات الخطأ غير المقصود.
لكن تخيلوا مثلا لو أن باحثا في علم التاريخ أو الاجتماع أو السياسة،
خرج ليقول إنه استنتج بعد سنوات من البحث والدراسة أن هناك أخطاء جسيمة قد ارتكبت
على مر تاريخ تونس المعاصر، وان بورقيبة لم يكن لا قديسا ولا ملاكا، كما قدمته
الرواية الرسمية، وأنه أساء في بعض المواقف والقرارات لتونس، وعطّل تقدمها، وفوّت
عليها فرصا وسنوات عديدة، وانه كان من الأجدر به أن لا يحتكر السلطة بذلك الشكل
المهين، وأن ينسحب منها إكراما لنفسه وسمعته على الأقل. فهل كان سيقابل بمثل
الحظوة والترحاب اللذين يقابل بهما كل من ينتقد القرآن أو يشكك فيه أو يثير حوله الأسئلة
والشبهات؟
إن
الأمر لم يكن ليمر قطعا على نحو مماثل، بل إنه لم يكن ليتم غالبا بهدوء وسكينة،
فالأصوات التي من المفترض أن يسمعها مثل ذلك الباحث قليل الحظ لن تكون إلا أصوات
المنتقدين والمتهمين له بالحقد والعداء لفكر بورقيبة، ونكران الجميل لكل ما قدمه
من مزايا لا تعد ولا تحصى لبلاده، بل ربما شكك البعض فيه وقلل من أهمية بحوثه
ودراساته، ونبش في سجله الشخصي عسى أن يعثر على ما ينتقص به من جهوده، أو يخدش به
سجله العلمي والأكاديمي. وربما وجه له البعض الآخر أيضا تهما مباشرة بالخيانة
العظمى والعمالة لجهات داخلية أو خارجية لا تريد الخير والسلام لتونس.
والمشكل الحقيقي هو أن لاشيء يبدو مهيئا لقراءة علمية منصفة
لبورقيبة، تبعد عن الترذيل المطلق أو التقديس الأعمى لشخصه وعصره. فمعظم الأدلة
والشهادات حول حقيقة سنوات حكمه طمست واختفت أو غيبت وأهملت عن عمد، ولم يعد من
السهل استعادتها، طالما أن قسما واسعا مما تبقى من أصحابها، أي من الذين عاصروا
الزعيم لم يعودوا مقتنعين الآن كثيرا بجدوى الحديث عن التفاصيل الدقيقة لما جرى في
عهده.
ولعل ذلك الأمر ترسخ مع الوقت بفعل تعمق حالة اليأس من حصول تغير
حقيقي في طبيعة تحرك الدولة، واستمرار دعايتها الضخمة وتمجيدها المبالغ للشخص
وتصويرها العقود الثلاثة التي حكمها فيها على أنها كانت عقود نماء وازدهار وانتعاش
اقتصادي واجتماعي باهر. ولئن لم تصل تونس بعد للدرجة التي يبحث فيها برلمانها
مشروع قانون لتجريم إهانة الرموز والشخصيات التاريخية، مثلما يحصل اليوم في مصر،
فإن القداسة المصطنعة حول بورقيبة تجعل من مجرد الخوض في سيرته خارج السياق الرسمي
بنظر الكثيرين خطا أحمر، ينبغي عدم تجاوزه أو كسره. فقد طالبت مثلا رئيسة حزب من أحزاب
الفلول في مايو/ أيار الماضي السلطات بأن تصدر قرارا يعتبر بورقيبة رمزا من رموز
الدولة، وبأن تقر بأن التطاول عليه يعرض صاحبه لعقوبات التطاول على الرئيس المباشر
نفسها.
لكن
الأمر قد لا يقتصر فقط على مثل تلك الدعوات المشبوهة، فهناك سباق حقيقي داخل تونس
على تحصين بورقيبة وحمايته من أي نقد كان. يحصل ذلك في ما يسود الصمت المطبق على أي
تطاول حقيقي على المقدسات، ولا يتحدث أحد تقريبا عن مآل العبث المتواصل بالقرآن
وأحكامه القطعية والصريحة، وكأن المقابل لعدم التطاول الافتراضي على بورقيبة هو
التطاول الفعلي وبأكبر قدر كان على القرآن.
عن صحيفة القدس العربي