كتاب عربي 21

القيامة الآن.. قوموا

1300x600
(1)
في مزحة فلسفية خفيفة، كتبت الفنانة التشكيلية المصرية "إيفيلين عشم الله" تنافس هيرقليطس: بالأمس كنت "أنا"، أما اليوم... فقد أصبحت "أنا جديدة".

تأملت التعبير بحزن؛ لأن هيراقليطس عندما كتب عن الإنسان والنهر "إنك لا تنزل النهر مرتين"، لم يكن يدرك أن شعوبا مثل العرب سحيل أنهار الزمن إلى مستنقعات راكدة آسنة، تتحول فيها مصادر الحياة إلى أوحال وطحالب وبقايا حيوات متعفنة..
صديقتي الحبيبة إيفيلين ترسم الأساطير الشعبية والكائنات الواقعية الممسوسة بسحر الخرافة، وتهيم عشقا بحرف "الواو".. قرين الكلمة الطفولية الأثيرة لدى المصريين (و...بعدين).. كلمة الحث على استكمال "الحدوتة" التي تجذب الطفل نحو نداهة الغيب الخفية، حيث يمتزج الماضي بالحاضر بالمستقبل، وتتداخل الخرافة مع الحقيقة بحيث لا نعرف متى يحضر الواقع ومتى يهيمن خيال "الحدوتة"؟!

(2)
في مثل هذه الأيام قبل خمسة قرون، اعتقد الناس أن نهاية العالم أوشكت، وأن موعد القيامة حان، ولما مرت شهور بعد موقعة "مرج دابق"، انهارت خلالها ممالك واتسعت غيرها ولم تقم قيامة ولا انتهت الدنيا، جدد الناس تحذيرهم من القيامة وقالوا: إن ما حدث كان مجرد "بروفة" وإن نهاية العالم تأجلت قليلاً؛ لأن العلامات كانت ناقصة والشروط لم تكتمل بعد، ثم عاد الأحفاد في هذه الايام ليرددوا أن علامات النهاية أوشكت على الاكتمال، والشروط تتوافر بوضوح متسارع، لهذا لا بد من الاستعداد للقيامة الآن في سوريا.

(2)
القصة ليست واقعية محضة، لكنها ليست خرافية، فهي خليط من الميثيولوجيا والأديان والنبوءات التي تستهوى البشر على مر العصور، وهذا الخليط ينطلق من تفسيرات متباينة لنصوص وحوادث في اليهودية والمسيحية والإسلام على السواء، معظمها يتحدث عن معركة فاصلة بين الخير والشر، يتحالف فيها الروم (العالم المسيحي) ضد المسلمين، وينتهى بعدها العالم. وقد ذهبت تفسيرات تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) إلى أن تلك المعركة الفاصلة هي التي بدأت بوادرها في سوريا، ولا بد من تهيئة الأجواء لها، والاحتشاد في "الأعماق" في ريف حلب، وتحديدا في دابق.

(3)
دابق الأولى وقعت في آب/ أغسطس 1516 بين العثمانيين والمماليك، وهذا أهم أسباب فشل القيامة؛ لأنها كانت بين سلطنتين إسلاميتين ولم تكن بين المسلمين والروم، وهذا ما انتبه له "الداعشيون"، فقرروا أن يركزوا في السيطرة على "دابق"، رغم عدم أهميتها العسكرية في المعركة ضد نظام بشار الأسد، وهذا يوضح أن معركتهم في سوريا ليست مجرد معركة سياسية أو عسكرية ضد نظام حكم، لكنها معركة كونية بين الخير والشر.. بين المسلمين والكفار، ولهذا اكتسبت "دابق" دلالة عقائدية ومعنوية، دون النظر إلى الحسابات العسكرية والموقع الاستراتيجي، وبالتالي صارت نقطة تجمع للجيوش التي ستتصدى للكفار وتنتصر عليهم، وتهيمن على العالم كله حتى تقوم القيامة.

(4)
عندما أصدر "داعش" مجلته الرسمية باسم "دابق"، تعبيراً عن رؤية ومواقف "دولة الخلافة"، اهتم العالم الغربى نفسه بالدلالة الرمزية والعقائدية للاسم، وبدأ ينظر للدوافع والمحرضات الدينية التي صارت قوة تحريك وتوجيه كبيرة للمعركة في سوريا. وربما كان هذا الإصدار مفتاحاً لتحولات درامية في ملف الأزمة السورية، فقد فوجئ المشاهدون في الغرب بمحلل بارز لشؤون الأمن القومى الأمريكى (بيتر بيرجن) يظهر على قناة CNN ويتحدث بجدية شديدة عن "نبوءة دابق" و"يوم القيامة"، وكأن العالم الحديث عاد طائعا إلى العصور الوسطى!

(5)
تَذَكَّر الناس في الغرب الكتب والنبوءات التي تتناول ما سُمِّى في الغرب "المسيحية الصهيونية" أو "معركة هرمجدون"، أو عودة المسيح الدجال وسلسلة أفلام (The Omen)، وتعني البشارة أو النبوءة، رغم أن السينما قدمتها باعتبارها "الإنذار" و"اللعنة". لكن الحديث عن "دابق" أقحم الإسلام في القصة التوراتية، وتم التوسع في تأويل أحاديث منسوبة للرسول الكريم، أحدها ورد في صحيح مسلم، وآخر رواه أبو هريرة، واستند إليه تنظيم داعش في حشد قواته للمعركة الفاصلة، ونص الحديث: "سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: لا تقوم الساعة حتى تنزل الروم بالأعماق (أو بدابق)، فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض (..)، فيقاتلونهم، فينهزم ثُلُث ولا يتوب الله عليهم أبداً، ويُقتَل ثلث وهو أفضل الشهداء عند الله، ويفتتح ثلث، لا يُفتَنون أبداً.." إلخ.

(6)
لا أقصد من هذا المقال مناقشة الجانب الديني للنبوءة، لكنه محاولة قراءة أوجه الشبه بين مرحلتين خطيرتين من المراحل الانتقالية في تاريخنا، وفي تاريخ العالم. ففي دابق الأولى سقطت مصر كدولة كبرى، وتحولت إلى ولاية تابعة وذليلة للباب العالي الذي انتزع الخلافة من مصر، وفرض على شعبها حصار التجويع والإفقار والتخلف، وفي دابق المنتظرة، يواصل داعش حربه العقائدية تحت تأثير الهوس بحلم "دولة الخلافة"، فهو لا يخشى تحالف العالم ضده.. بالعكس إنه يريد أن يزداد عدد الدول المشاركة في التحالف إلى 80 دولة لتبدأ النبوءة في التحقق. ويعتمدون في ذلك على حديث رواه الحاكم في "المستدرك"، والإمام أحمد في مسنده، وجاء فيه أن "الرسول تحدث عن سلام زائف مع الروم، وغدر بعد مصالحة، وقال صلى الله عليه وسلم: ".. فيغدرون، فيجتمعون للملحمة، فيأتونكم تحت ثمانين غاية، تحت كل غاية اثنا عشر ألفاً".. والمقصود 80 راية تحت كل راية 12 ألفاً، ولهذا يتعجل داعش الحرب البرية، يهلل قادته مع انضمام كل دولة جديدة إلى التحالف، ويرفعون شعار "دابق موعدنا".. يسترخصون الدم وأرواح الناس.. يستخدمون الدين في مقامرة توظيف سياسي وعسكري تهدد مصير أمم بشرية (معظمهم من المسلمين)، بعد أن تسبب جشع وضعف حكام هذه الأمم في الحال المأساوي الذي تعيشه المنطقة.

(7)
هذه القصة تشغلني منذ فترة طويلة، ولدي مشروع كبير لكتابة تفصيلية عنها، لكنني لم أجد الظرف المناسب والمنبر المناسب لنشر هذه المقالات المثيرة للقلق قبل الجدل.

كل عام وأنتم بخير..

آملاً أن نفكر في القيامة بمعنى أنها "بداية" وليست فقط نهاية، خاصة وأن لفظ القيامة هو للبداية أقرب.. فقوموا #قوموا.

tamahi@hotmail.com
الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع