مذهلة ومقلقة ومحزنة في آن معركة الصحف الأمريكية مع الرئيس دونالد
ترامب، فأن تُفْرِد 200 صحيفة عبر الولايات المتحدة افتتاحياتها للدفاع عن
استقلاليتها وحماية حريتها ليس بالأمر الهيّن، وإن كان يقول الكثير عما وصلت إليه
الحال في أمريكا، في حكومتها وإعلامها، وفي العلاقة بينهما.
ما
كان لهذا الحدث أن يكون كبيرا ومنسقا ومبهرا إلى هذه الدرجة، لولا أن الخطْب خطير
ويستدعي ردا جماعيا، فالسلطة الرابعة تتراجع سلطتها سريعا تحت وطأة هجمات ترامب،
والتوتر في العلاقة دخل منعطفا يُعد سابقة، ولا أحد يعرف إلى أين سيُفضي.
على
أهمية الحملة التي أطلقتها صحيفة "بوسطن غلوب"، وانضمت إليها بقية
الصحف، لا يُتوقع أن يكون مفعولُها كبيرا، فالحملة تنطلق من موقع ضعف، لا قوة،
وشعارها "لسنا أعداء أحد" أبلغ دليل على ذلك. الشعار في حد ذاته يبدأ
بنفي، وبه تبدو الحملة كأنها في موقف دفاعي منذ البداية، كما بدا في لهجة أكثر من
افتتاحية، بصرف النظر عما تستند إليه من قيم الديمقراطية والأخلاق والدستور في
الرد على ترامب.
سرّ
الضعف إدراك هذه الصحف، ووسائل الإعلام عموما، أن المعركة خاسرة، فالهجوم على
الرئيس سيؤدي إلى تعزيز قوته وشعبيته، وسيؤكد ادعاءه أنه مستهدف. أما إن اختارت
الصمت، فسيزداد بطشه. وفي الحالتين، ترامب هو الرابح.
الصحف،
ومعها الإعلام الأمريكي، تدرك أيضا أن طبيعة العلاقة مع البيت الأبيض تغيّرت، فلا
ترامب يبدو مكترثا بها، ولا الإعلام قادر، بكل ما لديه من ملفات فضائح أو تحليل أو
نقد، على توجيه ضربة قوية إلى الرئيس، كما سبق أن حدث مع رؤساء سابقين، مثل بيل
كلينتون وفضيحة لوينسكي، وريتشارد نيكسون الذي خرج موصوما من البيت الأبيض بعد
"فضيحة ووترغيت" التي كشفتها صحيفة "واشنطن بوست".
فقَدَ
الإعلام الأمريكي التأثير اللازم لإجبار ترامب على التراجع أو المراجعة. فكيف إن
كان الإعلام ذاته شهد انقلابا في مفاهيمه وأدواره في وجود وسائل الاتصال
الاجتماعي؟ يكفي أن "تويتر" وتغريدات الرئيس لها من الأهمية والتأثير
والانتشار ما يفوق المطبوعات مجتمعة وما تبثه شاشات التلفزة. وهذا في صلب الشعبوية
التي ركب ترامب موجتها ولا يزال، فكيف إن أضيف تحسن الاقتصاد الأمريكي (بعضه من
نتائج سياسة الرئيس الديمقراطي السابق باراك أوباما)، فيما الوعود بتحسن أكبر
قابلة للتحقق؟
يجب
أن نكون واضحين، مأزق الإعلام من صُنعِه إلى درجة كبيرة. ربما الخطأ الأكبر أو
الخطيئة الكبرى التي اقترفها هذا الإعلام كانت في خيانته قيمه -وهي القيم ذاتها
التي اتكأت عليها افتتاحيات الصحف في الحملة- عندما تواطأ مع المؤسسة الحاكمة في
الوقوف مع مرشحة الرئاسة هيلاري كلينتون، وتغييب ومعاداة المرشح الديمقراطي بيرني
ساندرز، الأكثر جاذبية للقوى الديمقراطية والشباب.
نذكر
أن 122 صحيفة، وأقواها من وزن "واشنطن بوست" و "نيويورك
تايمز" ومجلة "فورين بوليسي"، كانت تدعم كلينتون، بينما لم يتردد
المرشح ترامب، في عزّ حملته الانتخابية، في مهاجمة الإعلام والتعارك مع أقوى
قلاعه، "سي أن أن" التي أطلق عليها "أف أن أن"، أي شبكة
الأخبار الكاذبة (fake news network)، وفضّل عليها "فوكس نيوز". ولاحقا
بعد فوزه، لم يتردد في مهاجمة الصحافة بشدة ونعتها بـ "عدوة الشعب"، كما
قاطع حفلة العشاء السنوية لمراسلي البيت الأبيض. حتى لو كانت هناك فرضيات وتفسيرات
أخرى لهذا التوتر بين الإعلام وترامب، تبقى المشكلة الأساس هي فقدان الإعلام
التقليدي الأمريكي تأثيرَه وميزته التاريخية، أي الحياد والشفافية، وهذه الميزة
سقطت في الانتخابات باستبعاد ساندرز.
في
سقوط منظومة القيم، يتقاطع الإعلام الأمريكي مع شعبوية ترامب، المستفيد الأول
والأخير. واحتمال فوزه بدورة ثانية ليس مستبعدا، فنجاحاته هي ثمرة سقطات الإعلام
أيضا.
عن صحيفة الحياة اللندنية