يقال إن السياسة تعتمد بشكل رئيسي على الفن أكثر ما تعتمد على الهندسة. فالخيال والإبداع والمبادرة من سمات الفن، وهي السمات ذاتها التي تكتسي بها الممارسة السياسة الناضجة بشكل عام. أما المعادلات الرياضية والرسومات الهندسية والبيانية فليس لها دور ملموس في دفة التحولات السياسية، اللهم إلا في المرتبتين الثانية أو الثالثة. يتجلى هذا في كل تحول خارج عن سياق التوقعات المألوفة في بلد من البلدان، مثلما يحدث الآن في كل من
باكستان وإثيوبيا؛ اللتين تشهدان حراكا سياسيا غير مسبوق ينبئ بتحول سياسي جذري في تاريخهما المعاصر.
في عام 2014، كان أبي أحمد، رئيس الوزراء الإثيوبي الحالي، يدرك جيدا المثل القائل بأن "الفرص تحتاج لعقول جاهزة". فقد اندلعت مظاهرات عارمة في البلاد إثر خطة الحكومة للاستيلاء على أراضي في مناطق قبيلة الأورومو بهدف إدخالها ضمن خطة التنمية والاستثمارات؛ وسط اتهامات بتعمد النظام تهميش الأرومو والأمهرة لصالح أقلية التيجري الحاكمة، بعدها حدثت موجة قمع واعتقال وضغوط على الحكومة من داخل النظام نفسه؛ أسفرت عن في النهاية عن وصول الشاب أبي، ذي الثانية والأربعين عاما، إلى سدة الحكم في آذار/ مارس الماضي.
تخبرنا تجربة أبي أحمد بشكل واضح أيضا بأن المصالحة المجتمعية أولوية لا تنفصل عن الإصلاح السياسي والاقتصادي
جاء أبي أحمد من خلفية عسكرية وسياسية، أيضا أكاديمية، وهو يحمل مشروع تحديث اقتصادي وسياسي في الوقت ذاته. لم تكن المسألة الحقوقية مؤجلة عند رئيس الوزراء الجديد، كما تحاول بعض الأنظمة في منطقتنا أن توهمنا عند تأجيل الملف الحقوقي بأنه من أجل الإصلاح الاقتصادي والأمني. أيضا رفع رئيس الوزراء الجديد الحظر على القنوات المعارضة، وفتح حوارا مع معارضي الخارج، وأصدر عفوا عن757 من السجناء السياسيين، والذين تم وضعهم على قوائم الإرهاب. وفي الملف الخارجي، أجرى
مصالحة تاريخية مع الجارة إرتريا، وبذلك أصبح لبلاده منفذ هام على البحر الأحمر بعد قطيعة وحرب.
تخبرنا
تجربة أبي أحمد بشكل واضح أيضا بأن المصالحة المجتمعية أولوية لا تنفصل عن الإصلاح السياسي والاقتصادي، وتخبرنا أيضا بأن من يقوم بها لا بد وأن تكون له خبرة سياسية وعسكرية وأكاديمية. فإذا اجتمع كل هذا مع شخصية قادت حوارا بين المسلمين والمسيحيين في إثيوبيا ونزع فتيل توتر عام 2010، يكون هذا رائعا. لقد كان تعليقه على مقترح محمد بن زايد لبناء مركز إسلامي وتعليم الإثيوبيين الإسلام؛ رائعا. الرجل يدرك ما يريده، وهي اللغة العربية، وما يريد أن يضيفه للعرب، وهي قيم التعايش والتسامح التي يدعو إليها.
في باكستان، فلدينا تجربة مختلفة يأتي فيها حزب العدل من خارج الحزبين الكبيرين في البلاد، وهو على وشك أن يصل للسلطة حاليا
أما في باكستان، فلدينا تجربة مختلفة يأتي فيها حزب العدل من خارج الحزبين الكبيرين في البلاد، وهو على وشك أن يصل للسلطة حاليا؛ مدفوعا بأحلام الشباب اليائس من الإصلاح والمكوي بتفشي الفساد. رئيس هذا الحزب شخصية رياضية نحتت تاريخا في السياسة على مدار أكثر من عشرين عاما في بلد متقلب الأحوال السياسية بشكل درامي، وهو ما يدلنا على أن الموهبة الرياضية والشعبية المبنية خارج السياسة لا تكفي وحدها لبناء نجاح ساحق، وإنما النجاح السياسي هو عملية تراكمية عبر سنوات من النضال.
كان كثيرون يسخرون من لاعب الكريكيت الباكستاني الشهير
عمران خان وهو يخوض غمار السياسة عام 1996، لكن آخرين كانوا يشدون على يديه خاصة وهو يقوم ببعض الأعمال الإنسانية الأخرى، مثل جمع التبرعات لمستشفى السرطان الذي بناه إحياء لذكرى والدته التي قضت نحبها بسبب هذه المرض العضال.
كلا البلدين يحاولان تجاوز هذه الأزمات بطريقة مبتكرة من خارج الصندوق السياسي التقليدي
لدينا تجربتان تولدان في بلدين شهدا أزمات وحروبا تتشابه، أو ربما تزيد، عما تمر به عديد من الدول العربية من مشاكل سياسية واقتصادية وأمنية. وكلا البلدين يحاولان تجاوز هذه الأزمات بطريقة مبتكرة من خارج الصندوق السياسي التقليدي، وإن كانت القيادات السياسية التي تقود هذا التحول الجديد قادمة من دهاليز السياسية القائمة. وهذا يعني أنه يمكن في بلداننا العربية أن تقود بعض الشخصيات السياسية تحولا حقيقا ينقذ منا يمكن إنقاذه، شريطة ألا تسير على نهج من سبقوها من قيادات.
العالم الآن يتجه - وللأسف - نحو نموذج القيادة القومية السلطوية؛ بمسحة شوفونية ذات المزاج اليميني كمرادف للاستقرار
إن العالم الآن يتجه - وللأسف - نحو نموذج القيادة القومية السلطوية؛ بمسحة شوفونية ذات المزاج اليميني كمرادف للاستقرار، وهو النموذج الذي يقدمه دونالد ترامب في الولايات المتحدة وبوتين في روسيا، ويحاول السيسي في مصر أن يستنسخه. لكن تجربتنا في الدائرة الأفريقية وفي الدائرة الإسلامية تخبرنا أن ثمة طريقا ثانيا يمكن السير فيه لتحقيق الاستقرار والاستقلال والإصلاح.