هناك من يرى أن قانون القومية الإسرائيلي يمثل إعلان فشل خيار الدولة الواحدة بتكريسه يهودية الدولة ونزعه الشرعية عن السكان غير اليهود، لكن ثمة زاوية أخرى محتملة للنظر، فإقرار هذا القانون يكشف بالذات خشية دولة الاحتلال من المستقبل و أن يفرض خيار الدولة الواحدة نفسه على أرض الواقع.
وهو ما يعني عملياً تفكيك المشروع الاحتلالي الاستيطاني من الداخل، وكل القرارات والقوانين والإجراءات التي تتخذها دولة الاحتلال للتأكيد على يهودية الدولة ليست سوى معاندة للتاريخ واستجداء شرعية لواقع شاذ لم يستطع تكريس شرعيته منذ سبعين عاماً لأنه مناقض لطبائع الأشياء.
من الطبيعي أن دولة الاحتلال لن ترحب بخيار دولة ديمقراطية واحدة في فلسطين لكل مواطنيها تقوم على أساس المساواة، لكن منذ متى كان رفض القوى المهيمنة مبرراً كافياً للتوقف عن النضال في سبيل ما هو أقوم وأقسط.
إن مبرر طرح خيار الدولة الواحدة ليس رضى الاحتلال عنه، بل ما يحمله هذا الخيار من بذور قوة كامنة تجعله الخيار الأقل تكلفةً والأقوى أخلاقياً والأقرب إلى المنطق، وهو ما يشجع على صياغة مشروعنا النضالي في اتجاه الدعوة إليه ومراكمة عناصر القوة لصالح تحقيقه يوماً ما.
وحتى لو لم يكتب لهذه الفكرة التحقق بسبب جملة من الأسباب التي تتعلق باختلال موازين القوى أو بسبب ارتفاع العنصرية في المجتمع الإسرائيلي أو حتى بسبب الطبيعة الثقافية للمجتمع الفلسطيني العربي التي لم تنضج بعد لقبول فكرة تنطوي على كل هذا القدر من الانفتاح، فإن هذه المعوقات لن تنال من القوة المبدئية لهذه الفكرة، فالأفكار قوية في ذاتها، وكم من الأنبياء لم يؤمن بدعوتهم سوى رجل أو رجلين لكن زهد الناس بدعوات الأنبياء لا يقدح في قوتها المبدئية.
ثمة العديد من مبررات طرح فكرة الدولة الواحدة:
أولاً فهي الأكثر واقعيةً إذ إنها تستند إلى حقوق الفلسطينيين الأساسية في العودة إلى ديارهم والتحرر من واقع الاحتلال والهيمنة وإنهاء سياسات الاضطهاد والتمييز الواقعة عليهم، ولكنها في ذات الوقت تأخذ بعين الاعتبار واقع وجود ملايين اليهود في أرض فلسطين، فهؤلاء ليس من المنطق وربما ليس من الممكن عملياً أن ندعو إلى إبادتهم أو رميهم في البحر.
لقد نشأت أجيال جديدة من الإسرائيليين لا يعرفون وطناً لهم سوى هذه الأرض، وهؤلاء ليس بالضرورة أن يكون كل واحد منهم مجرماً، فالجريمة قضية فردية وليست قوميةً، نعم إن كل من جاء بقصد وإرادة إلى أرض فلسطين وهو يعلم أنه سيطرد فلسطينياً من بيته ويحل محله فهو مجرم، لكن من ولد وكبر وهو في هذه الأرض فإن له مقاربةً مختلفةً، والمرء لا يؤخذ بجريرة أبيه أو جده، وإذا كانت قضيتي الأولى كفلسطيني هي عودتي إلى أرضي فإن إكمال المشهد أن أقول إنه لا يعنيني من يبقى في فلسطين ومن يخرج منها، كل ما يعنيني أن يعود إلي حقي وأن تنتهي حقبة التهجير والتشريد والاضطهاد.
ثانياً إن فكرة الدولة الواحدة تتناغم مع روح العصر، فالوعي الإنساني يبدو أقرب إلى فكرة المواطنة من فكرة القومية، أو على الأقل فإن فكرة القومية قد أزاحت متسعاً للمواطنة والعلاقات الإنسانية، وإذا كانت العقلية العربية التقليدية تدفعنا لإحياء مفاهيم العصبية للأرض وأنه ليس من حق لليهود بالبقاء في أرض فلسطين، فإن ملايين العرب على الأقل هم مواطنون في أوروبا وأمريكا ينعمون بخيراتها ولهم ذات الحقوق التي للمواطنين الأصليين بل ويمكن لأحدهم أن يترشح ويكون مسؤولاً في تلك البلاد، إذاً وبنفس المنطق فلماذا لا نتفهم بقاء جزء من اليهود في فلسطين إذا كان بقاؤهم على أساس المواطنة الإنسانية وليس على أساس الاحتلال والاستيطان.
إن هناك من الفلسطينيين الذين لجأوا إلى بلاد الغرب من ارتبطت مصالحهم ومصالح أبنائهم وأحفادهم من بعدهم بوطنهم الجديد، هؤلاء لن يعودوا إلى فلسطين لو تحررت إلا زائرين بعد أن ارتبطوا مصيرياً ببلاد جديدة، إذاً فالعدل يقتضي أن يكون هناك معيار واحد في التعامل مع أجيال جديدة من اليهود ارتبطت مصيرياً بأرض فلسطين، مع تأكيد الرفض ثانيةً وعاشرةً لبقائهم كمحتلين.
نحن نريد أن نسقط مشروع الاحتلال والاستيطان وأن يبقى بعد ذلك كل من يرغب في البقاء في فلسطين على أساس الحقوق الإنسانية المتساوية.
ثالثاً هناك من يتوجس لا شعورياً من فكرة التعايش مع اليهود في وطن واحد، وهذا التوجس يستند إلى عوامل نفسية بسبب طول العهد بنمط اللون الواحد والمجتمع النقي وليس إلى مبررات موضوعية، والرد على هذا التوجس من عدة وجوه، أولاً فإن الفلسطينيين في بلاد الغرب يعيشون فعلاً في مجتمع واحد مع كل أعراق الأرض بمن فيهم اليهود بل والصهاينة ويخضعون إلى نظام واحد و يحتكمون إلى قانون واحد، ثانياً إن التعايش مع قومية أخرى في نفس المجتمع لا تعني الذوبان والانصهار، فالشيخ رائد صلاح والمناضلة حنين زعبي والمناضل باسل غطاس يعيشون في دولة واحدة مع عتاة الصهاينة لكن علاقتهم هي علاقة النضال وليس الانصهار.
ثالثاً فإن الدولة الواحدة لا تعني القضاء على الهويات المتعددة ويمكن لكل طائفة أن يتجمعوا في مدنهم وقراهم ويحيوا بينهم روابط الدين والثقافة دون انصهار في الهويات الأخرى، وسيكون واقعهم أفضل لأنهم لن يعيشوا في معازل عرقية كما هو واقع أهالي قطاع غزة والضفة الغربية، وإذا لم ينل الفلسطينيون حقوقهم كاملةً في الدولة الواحدة فإن بوسعهم أن يناضلوا كما تناضل حنين زعبي ورائد صلاح، ولكنه نضال سيكون أقل استنزافاً ودمويةً لأنه من داخل الدولة وبأدوات النضال السلمي، وهدفه الحقوق وليس تدمير الواقع كلياً.
رابعاً نحن عملياً نعيش في دولة واحدة تحكمها حكومة نتنياهو ويدير شئونها المدنية المنسق، كما اعترف بذلك صائب عريقات، ونحن نطالب حكومة الاحتلال بفتح الحواجز وإدخال البضائع وتحويل المرضى إلى المستشفيات، لأننا نعلم أنها الحاكم الفعلي.
قطاع غزة هو سجن على أراضي هذه الدولة الواحدة يناضل أهله من أجل تحطيم جدران سجنهم، والضفة الغربية وتجمعات أهالي ال48 هي معازل عرقية داخل هذه الدولة الواحدة يسكن فيها مواطنون يمارس ضدهم التمييز العنصري..
أطروحة الدولة الواحدة لا تدعو إلى تأسيس واقع جديد بل تدعو إلى النضال وفق معطيات الواقع الراهن من أجل إسقاط الجدران والتمييز العنصري وتحقيق المساواة والكرامة والحرية لكل الناس، وهذه مهمة أكثر واقعيةً من الدعوة لإبادة إسرائيل أو الدعوة لدولة فلسطينية لن تقبل بها حكومة الاحتلال أبداً..
إن تطبيق خيار الدولة الواحدة ليس سهلاً، وستقاتل مؤسسة الاحتلال قتالاً شرساً ضده، لكنه يحمل من القوة المبدئية والطاقة الكامنة ما يستأهل أن نعيد صياغة خطابنا ومشروعنا النضالي في ضوء هذه الرؤية.
إن جزءًا كبيرا من ضعف المواقف الدولية المساندة للقضية الفلسطينية رغم الإقرار المبدئي بعدالتها هو معضلة مصير اليهود في فلسطين، هذه المعضلة تحلها أطروحة الدولة الواحدة التي لا تنادي بإبادة الإسرائيليين بل تنادي بتحقيق حقوق الفلسطينيين، وتعلن أن مشكلتها مع عنصرية الإسرائيلي واحتلاله وليس مع إنسانيته ووجوده.