قضايا وآراء

عبد الوهاب المسيري وإنتاج المعرفة

1300x600

ترتبط تقنية الكتابة عند عبد الوهاب المسيري بتقنيته في إنتاج المعرفة، بل وبدوافعه لتحصيل مُدخلاتها. وهو غالبًا ما لا يستطيع إدراكه أي من المدرسيين الذين أُسروا لتقليدٍ معرفي ما، خصوصًا "العرب" أسرى التقليد الأكاديمي الغربي. وقد ارتبطت هذه التقنية في إنتاج المعرفة بأسئلة حقيقية يبحث عن إجاباتها، ومكابدة ذاتيَّة يوميَّة لتلك الأسئلة وإجاباتها المختلفة؛ ولم تكن ثمرة أطروحات أكاديمية مُجرَّدة أو مشروعات نظريَّة بارِدة أو مُجادلات سوفسطائيَّة نخبويَّة لا طائل تحتها، وهو ما يُضفي على إنتاجه حيويَّة مُتجددة رغم برودته العقليَّة في مواضع كثيرة! 


لقد كان المسيري، كأي عبقري؛ يبحث عن إجاباته الخاصة مهما كبَّدهُ ذلك من عناء، وليس عن إجاباتٍ مُقولَبة جاهزةٍ؛ تُريحه من عناء البحث والدراسة والاختبار والهضم والتأمُّل والتمثُّل والتفكيك وإعادة التركيب.

الفارق بين ما قدَّمه المسيري وبين هؤلاء الفلاسفة الكبار هو أنه يُعيد تنظيم هذه الشظايا وتعريفها في إطار رؤية كونيَّة مُتجانِسة ومتماسِكة، في إطار سردية كبرى عن الإله والإنسان والكون.

ربما لهذا السبب لم يكن -رحمه الله- يكترِثُ لذكر مصادره تفصيلًا حين يكتب، وإن أشار، جملة وتفصيلًا؛ لآثار الكثيرين وفضلهم عليه وعلى أفكاره.

 

لكنك إن ذهبت تُنقِّب عن أصول تأثير هؤلاء في نصوصهم التي أشار إليها؛ فلن تجد الأفكار أو العلاقات أو النصوص كما ظهرت لك في أنساق المسيري ونماذجه التركيبية. بل وقد لا تستطيع أصلًا، بدون إشارته؛ إدراك معالم المؤثر في نموذجه المعروض لناظريك، مهما أجهدت نفسك بالمقارنة؛ إلا بجهد تفكيكي وتركيبي موازٍ للجهد الذي بذله لبناء نماذجه. وأحيانًا لن يكفيك التفكيك والتركيب للوقوف على شئ من معالم تلك المؤثرات المتنوِّعة، وإنما سيلزمك أن تُكابِدُ مكابداتٍ مشابهة لما مرَّ به.


وما ذلك إلا لأن الأستاذ -رحمه الله- كان ينسلخ من كل تقليد ومن كل إجابة، ليُعيد بناء المحتوى والدلالة وتركيبهما داخل نسقه الخاص، وانطلاقًا من رؤيته الخاصة، بوجهة مختلفة، وفي غمار حرارة مكابداته الشخصية؛ تدشينًا لتقليده المعرفي الخاص. كان يبني سرديته الخاصة عن الوجود. يبنيها برحيقٍ تكوَّن من هضم المدخلات والإفادة منها، وليس برص النقول والتعليق عليها كما يفعل المدرسيون الجوف! 


ولعل المثال الأشهر على ذلك هو نقده للحداثة الغربيَّة، وتأثُّره بمدرسة فرانكفورت واليسار الجديد، وهو ما يشير إليه في غير موضع.

 

لكن الفارق بين ما قدَّمه المسيري وبين هؤلاء الفلاسفة الكبار هو أنه يُعيد تنظيم هذه الشظايا وتعريفها في إطار رؤية كونيَّة مُتجانِسة ومتماسِكة، في إطار سردية كبرى عن الإله والإنسان والكون.

 

إنه يرى الكليَّات بوضوح، ومن ثم فإن الجزئيات والتفاصيل التي يُفيدها من نُقاد الحداثة ودارسيها تنتظم بسهولة ويُسر في نماذجه التفسيرية، وداخل منظومته القيمية؛ لتخلق آليات إبستمولوجيَّة شديدة القوة والفاعلية في إنتاج المعرفة النقدية، وليس مجرَّد ترديد ببغائي لمقولات متناثرة؛ كالطعام النيء الذي تقيئه معدة ضَعُفت عن هضمه!


لقد سلك المسيري إشكالات الحداثة في سلك واحد بوصفها تجليات أو تعبيرات متنوعة عن ظاهرة واحدة (العلمنة)، في حين تعامل فلاسفة فرانكفورت مع تلك الإشكالات بوصفها ظواهر متعددة ومستقلة لا رابط بينها.

 

وهو في ذلك يُعبِّر عن رؤية واضحة للإنسان، وعن نسق أخلاقي مُنسجم ومطرد، بعكس اضطراب عباقرة مدرسة فرانكفورت، وتشظي إضافاتهم ورؤاهم وجنوحهم النظري.

 

لهذا كله لم يكن المسيري يذكُر موسوعته الضخمة عن الصهيونية، والتي أفنى فيها نصف عمره تقريبًا؛ إلا بوصفها مُجرَّد حالة تطبيقية لاختبار تصوراته ونماذجه التفسيرية النظرية.

 

وكان يرى أن المعلومات التي طوتها الموسوعة مُجرَّد حقائق مُتناثرة يمكن الوقوف عليها في أي مصدر معلوماتي، أما تنظيمها بطريقة معينة، ووفق منهجية مطردة؛ تسمح بقراءة الظاهرة ورسم صورة أكثر تفسيرية لها، فقد كان هذا إنجازه الأعظم الذي أفنى فيه عمره المبارك.


لقد عاش عبد الوهاب المسيري أيامه الأرضيَّة يبني قدراته العقلية، وعلَّمنا كيف نحذو حذوه؛ ولم ينفق عمره لرص ومراكمة المعلومات والمعارف المتاحة في الكتب. لقد علَّمنا المسيري كيف نُنتج المعرفة النقدية، وكيف نختبر قدرتها، وكيف نستعملها. وهذا ما سوف يُكتب في صحيفته بحروف من نور، ويثقل ميزانه بإذن الله. 


في الذكرى العاشرة لانتقال الأستاذ إلى الرفيق الأعلى، لا نملك إلا أن ندعو له، اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده، واغفر لنا وله، وانفعنا اللهم بعلومه في الدارين، وأسكنه الفردوس الأعلى؛ الفردوس الحقيقي، الذي عاش يحمله في قلبه حتى الرمق الأخير.