يرى علي شريعتي أن ثمة نمطا ثابتا يتجسَّد في تاريخ الدين كُله، من لدن آدم إلى بعثة المعصوم صلى الله عليه وسلم؛ وهو أن ظهور دعوةٍ دينية قد ارتبط بأمرين، أولهما ظهور الدعوة الجديدة برغم وجود ديانة/ مذهب سابق؛ بل لمواجهة الديانة السائدة (المحرَّفة)، والثاني أن أهل الديانة القديمة هم أول من يشن الحرب على الدعوة الجديدة. ونُضيف نحن عُنصر ثالث لا يقِل أهميَّة، وهو انتقام أهل الديانة القديمة من الدعوة الجديدة، إذ يظهر أمرها وينصرها الله. فيتغلغل بعض الملأ من أهل الشرك في مجتمع التوحيد، طمعا منهم بتقويض الدعوة من داخلها، وهي الظاهرة التي سمَّى الإسلام أهلها بالمنافقين. وإذا كان المولى سبحانه وتعالى قد كشف لنبيِّه أعيان المنافقين في مجتمعه الصغير، إلا أن معرفة المنافقين الذين في قلوبهم مرض، على هذه الصورة القطعيَّة، تظل مُستحيلة في كل مجتمع آخر؛ بما أنهم يُظهرون الإيمان ويُبطنون الكفر، وإن تجلَّت رحمة الله في كشف القرآن معالم نمط النفاق وأفعاله حتى يحذر المؤمنون.
وكما يقول صاحب الظلال؛ فإن مسجد الضرار "ما يزال يتخذ في صور شتى تلائم ارتقاء الوسائل الخبيثة التي يتخذها أعداء هذا الدين. تتخذ في صورة نشاط ظاهره للإسلام وباطنه لسحق الإسلام، أو تشويهه وتمويهه وتمييعه! وتتخذ في صورة أوضاع ترفع لافتة الدين عليها لتتترس وراءها وهي ترمي هذا الدين! وتتخذ في صورة تشكيلات وتنظيمات وكتب وبحوث تتحدث عن الإسلام؛ لتُخدِّر القلقين الذين يرون الإسلام يذبح ويمحق، فتخدرهم هذه التشكيلات وتلك الكتب بأن الإسلام بخير لا خوف عليه ولا قلق! وتتخذ في صور شتى كثيرة" باسم الإسلام وباسم الله، وهي تصُد عنه.
وقد أورد القرآن قصَّة هذا النمط كاملة، ليُعلّمنا كيف يُمكن أن يُتخذ ما يظهر لنا أنه بيت الله؛ أداة للصد عن سبيله سبحانه، فيكون بيتا للنفاق ومرتعا للشرك في حقيقته، لا تُغني في ذلك صورة المبنى الخادِعة.
يقول عز وجل: "وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدا ضِرَارا وَكُفْرا وَتَفْرِيقا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ، وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدا، لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ، فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ * أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ، أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ* لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَة فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ" (سورة التوبة، الآيات 107- 110).
يروي ابن كثير في تفسيره أن سبب نزول هذه الآيات أنه كان في المدينة، قبل مَقدَم الرسول صلى الله عليه وسلم إليها، رجل يقال له "أبو عامر الراهب" قد تنصَّر في الجاهلية، وكانت فيه عبادة وله شرف في الخزرج كبير. فلما قَدِمَ النبي مُهاجرا إلى المدينة، وصارت للإسلام كلمة عالية بعد يوم بدر، بارز أبو عامر بالعداوة، وخرج فارّا إلى مُشركي مكة، فألَّبهم على حرب الرسول صلى الله عليه وسلم، فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب، وقدِموا عام أحد.
وكان هذا المنافِق قد حفر حفائر بين الصفين؛ فوقع في إحداها النبي، وأصيب ذلك اليوم إصابته المعروفة، صلوات الله وسلامه عليه. وقد تقدَّم أبو عامر في أول المبارزة إلى قومه من الأنصار، فخاطبهم واستمالهم إلى نصره وموافقته، فلما عرفوا كلامه نالوا منه وسبوه. فرجع وهو يقول: والله لقد أصاب قومي بعدي شر. وكان الرسول قد دعاه إلى الله قبل فراره، وقرأ عليه من القرآن؛ فأبى أن يسلم وتمرَّد.
ولما فرغ الناس من أُحُد، ظهر أن أمر الرسول صلوات الله وسلامه عليه في ارتفاع وظهور، فقصد أبو عامر هرقل ملك الروم يستنصره على النبي، وأقام عنده، وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنّيهم أنه سيقدم بجيش يقاتل به النبي ويغلبه ويرده عما هو فيه، وأمرهم أن يتخذوا له معقلا يقدم عليهم فيه من يقدم من عنده لأداء كتبه، ويكون مرصدا له إذا قدم عليهم، فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء، وفرغوا منه قبل خروج النبي إلى تبوك. وجاؤوا فسألوه صلى الله عليه وسلم أن يأتي إليهم فيصلي في مسجدهم، ليحتجوا بصلاته فيه. وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم وأهل العلَّة، فعصم الله رسوله من الصلاة فيه.
ولما قفل عليه الصلاة والسلام راجعا من تبوك، ولم يبق بينه وبين المدينة إلا يوم أو بعض يوم، نزل عليه الوحي بخبر مسجد الضرار، وما اعتمده بانوه من الكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم مسجد قباء؛ الذي أسس من أول يوم على التقوى. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك المسجد من هدمه قبل مقدمه المدينة.
وقد يستغرب البعض إرسال النبي صلى الله عليه وسلم من يهدِمُ مسجدا، كما أرسل صحابته بعدها بأعوام لهدم الأوثان في سائر أنحاء الجزيرة. والحق أن المثل الذي ضربه حضرة النبي في هذا الشأن، تنفيذا للأمر الإلهي؛ لا يدع في صدر المؤمن أدنى شك في مساواته صلى الله عليه وسلم بين مسجد الضرار، وبين الأصنام الحجرية التي يُشرك بها المشركون. بل إن مسجد الضرار أخطر، وكذا كان هدمه أسبق كما كان مثاله أسبق في تاريخ الدعوة، لا لأنه من عمل المنافقين الذين يُظهرون الإيمان ويُبطنون الكفر فحسب، ولا لأنهم أقدموا على مثل هذا العمل تنفيذا لأمر كافِر صريح العداوة، ولا لأنهم كانوا من الوقاحة بحيث دعوا المعصوم صلى الله عليه وسلم للصلاة فيه، بل لأنهم أرادوا الصد عن سبيل الله باسمه سبحانه. ها هُنا كانت القاضية، وها هُنا تظهر عصمة الله لدينه وحفظه لكتابه، مهما كانت غفلة المسلمين.
وصدق سبحانه إذ قال: "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَة ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ" (سورة الأنفال؛ الآية رقم 36). إنه ناموسٌ نافذ.