قبل أكثر من خمسين عاما حلت النكبة الكبرى بأمتنا عندما تمكنت قوات
الصهاينة من احتلال قطاع غزة والضفة الغربية وشبه جزيرة سيناء وهضبة الجولان
السورية.. إن ما حدث يفوق التخيل، ولا يمكن إحالته على التحليل المنطقي.. فلقد
حصلت الحرب في ظل تهييج رسمي عربي واسع عن الاستعداد لها، فمن الذي هُزم في تلك
الحرب؟
بلا
شك لم يُهزم الجندي العربي الحر والذي تسكنه كل معاني العزة والكرامة والذي أبلى
رغم حدوث النكبة بلاء عظيما متى سنحت له الفرصة وتهيأت له ظروف المواجهة.. ولم
يُهزم المواطن العربي الذي كان في قمة ارتفاع روحه المعنوية والذي صبر صبرا طويلا
على ظلم الطواغيت وجبروتهم وعلى حرمانه من كريم العيش من اجل انتصار موعود يعيد له
حقه المقدس بفلسطين.
إن
النظام العربي البوليسي هو الذي انهزم.. انهزمت دولة البوليس التي جندت الإعلام
فأصبح مهرجا، وجندت الفنانين فأصبحوا لها، وجندت شيوخ الدين فاصبحوا مرتزقة وجندت
النخب الثقافية فأصبحوا أفاقين.. انهزمت أدوات الفساد جملة وانكشف الأمر أن
الأفكار الكبيرة والشعارات العريضة الرنانة التي ارتفعت للتغطية على عجز بنيوي
وثقافي وأخلاقي لم تصمد كثيرا في المواجهة.
انهزمت
منظومة الأفكار الهشة وانهزم منهج الحياة الرخو التلفيقي فكانت الكارثة في لحظة
واحدة تصل إلى نخاع الحياة العربية.. سقط النظام العربي وسقطت أفكاره ومنهجه
وطريقته في التعامل مع التحديات.. ولم تكن معركة إنما نزهة مسلحة للعدو.. لم تكن
مواجهة، بل انهيار فظيع.. لم تكن هناك خطة ولا استراتيجية إنما هو التهريج والكلام
الذي يشبه الطفيليات التي تغطي على الحقيقة.
وكانت
نكبة فيما سيأتي بعد في الفكر والسياسة والثقافة.. فمنذ تلك اللحظة تضاءلت فلسطين
لتعود فقط الضفة الغربية وقطاع غزة وتراجع الشعار من تحرير فلسطين إلى “إزالة آثار
العدوان”.. ومن الكلام عن الحرب إلى التعامل مع المشاريع كمشروع روجرز وسوى ذلك من
مبادرات غربية وأمريكية أرادت امتصاص حالة الغضب الشعبي العربي والاستفادة من حالة
انكسار النظام العربي وزعاماته والدفع بها في مستنقع التنازلات.
كانت
نكبة أخطر من نكبة 1948، لأنها كرست في وعي قطاع كبير من النخب العربية لا سيما
السياسية أن الكيان الغاصب اصبح واقعا لابد من التعاطي معه في احسن احتمال على أرضية
حل الدولتين.
ولكن
رغم التحدي الكبير إلا أن الشعب الفلسطيني وطلائع التحرير في الأمة ظلت تكتنز
اليقين ولم تهزها التحديات العاصفة ولم تتنازل عن حرف من جملتها المقدسة فلسطين
الكاملة.. ولقد كانت النكبة الضربة القاضية للفكر التلفيقي وللمناهج المفسدة،
الأمر الذي فتح الباب أمام حركات المقاومة والجهاد في فلسطين واتجاهها.
إن
مسيرة العودة التي تتجدد اليوم في فلسطين كلها تعني إعادة الوعي الذي تم تجميده
اكثر من خمسين سنة.. لقد كسرر الوعي الشرنقة وخرج للحياة بأن فلسطين كاملة لا
تنازل عن حبة تراب.. وهكذا تبدأ رحلتنا الحقيقية الأكيدة، وكذا يكون نصرنا لله
وعلى ذلك ينصرنا الله جلت قدرته.
الشروق الجزائرية