يعدُّ مقام
الدعوة من أجَلِّ المقامات الدينية، نظرا لتعلقه بذات المدعو إليه سبحانه وتعالى، فوظيفة
الداعية إرشاد الناس إلى طريق السير إلى ربهم، رغبة في نيل رضوانه قبل الرغبة في
نيل الثواب أو مجافاة العقاب، إذ لا فوز يعظم مكانة عن رضا المولى العليّ، ويترتب
على هذا الرضا نيل الجزاء بدءا بدقائق النعم وانتهاء برؤية وجهه الكريم، ووظيفة
الداعية تعبيدُ الطريق لنيل تلك المكانة، وكلما وضعَ العراقيل في الطريق، بانت
مجافاته للمقصد الجليل.
ما خبِرْناه
في تجربة الدعوة الدينية في مصر على مدى العقد الأخير تقريبا، قيام الدعاة
"أفرادا ومؤسسات" بوضع العديد من العراقيل أمام السالكين، وأغلب الظن عدم
تعمّد ذلك، بل ربما الْتَبَسَتْ بعض المفاهيم، في ظل تعاقب نظم الاستبداد وكبْتِها
لأي محاولة للتطوير الذاتي في كل المجالات، بما فيها المجالات الدينية، سواء على مستوى
الوعظ والإرشاد أو على مستوى صناعة الفقهاء، ورغم تعمّد الدولة تعكير المناخ
الدعوي، فإن الدعاة أخطأوا بما يسمح لهذا التعكير أن يجد مناخا وأرضا مستقرة له.
ربما كان
الخطأ الذي قضى على الحالة الدعوية المصرية هو انجراف المؤسسات الدينية الرسمية
والأهلية في التجاذبات السياسية، فكانت النتيجة حدوث تشويه لمفاهيم كانت أساسية
لعقود طويلة، كفرضية الحجاب، ووجوب الامثتال للأمر الرباني بالعبادة على النحو
المنصوص عليه لا على النحو الذي يريده كل شخص، بالإضافة لتزايد عمليات التشكيك في
الدين، وأخيرا انتشار حالات المجاهرة بالفطر في رمضان، وهو ركن من أركان الدين،
وكان السائد في المجتمع أن المنفلت يلتزم بالطاعات الجماعية دون قيد عليه، بل
لكونها عبادة مترسخة في الوجدان المجتمعي.
فقدنا كل ذلك
بانشغال الجهات الدعوية بالسياسة، وبُعدها عن أصل وظيفتها، وترسّخ الفقد بتغييب
الحركات الدينية الأهلية بصورة عنيفة وشرسة عقب التحول السياسي الأخير منتصف 2013،
وانخراط المؤسسة الدينية الرسمية في ذلك المشهد أثّر -لا ريب- على قدرتها على
مخاطبة الشرائح المتضررة من سياسات الدولة، فأصبحت الجهة الوحيدة المتبقية للدعوة
والإرشاد بين جحيم السياسة وما يترتب عليها من رفض الإصغاء إلى جهة داعمة للإفقار
والبطش، وبين أزمة فقد الكفاءات وغياب روح الداعية التي ربما تعظم -في المجمل لا
على مستوى الجميع- عند المتطوّع للدعوة لا الموظف الذي يتقاضى الأجر.
ثمة ملاحظة
أخرى متعلقة بعملية الدعوة على مستوى المهتمين وبعضهم البعض، وعلى مستوى الخطاب
الذي يُقدّم للمدعويين، فعلى مستوى الحركات الدعوية وبعضها، يلحظ المتابع أن هناك
غِلْظة غير عادية في هجوم الحركات الدعوية على بعضها، في مقابل لينٍ للمختلف الذي
يقف على أرضية مغايِرة وربما مخاصمة، فنجد دعاة معارضين للسلطة يصفون الأزاهرة
بنعوت قاسية، ونجد أزاهرة بالمقابل ينعتون المعارضين بالخوارج، ونجد تلاسنا بين
الصوفية والسلفية يدور حول التضليل والتكفير، وغير ذلك الكثير، مما يثير التساؤل
حول صفاء القصد من تلك الدعوة التي تلين للعلماني مثلا أكثر من لينها مع المقارب
في التوجّه، ومن المهم بيان أن اللين مع المختلف العلماني أو المختلف في الدين ليس
مذموما، بل هو مطلوب، لكن المثير للملاحظة هذا اللين مع المختلف تماما، في مقابل
غلظة مع القريب فكريا.
أما على
مستوى الخطاب، فربما كان الإشكال الأكبر فيه ينبع من الخطاب السلفي الذي يركّز على
التشديد في العبادات والطاعات، مع تفسير النصوص بصورة تتلازم مع هذا الضيق، فساهم
ذلك بدرجة ما في إحداث الفجوة الحالية.
ما تحتاجه
الدعوة الدينية أن يتوافر لها ثلاثة أمور، أولهم: وجود مناخ حر يسمح بتفاعل
الحركات الدعوية مع المجتمع مما يسمح لها بالتطور الذاتي، وفهم احتياجات الناس
بصورة أوضح، وثانيهم: الاستقلال المالي عن السلطة السياسية، لتكون المؤسسة الدعوية
تتحرك بحريتها، وتنخلع سلطة الدولة عليها فلا تنحسر الدعوة بانحسار حجم السلطة
السياسية في الشارع، وثالثهم: تكثيف عمليات تأهيل الدعاة
ليقوموا بوظيفتهم على أقرب وجوه الإحسان في العمل والإرشاد.
وهذه الأمور
إن كانت صعبة في الوقت الحالي، لكن ربما يتغير الظرف وتعود مساحات الحركة للجميع
بما فيهم الحركات الدعوية، إذ خسارتها ليست قاصرة على غياب الدعاة أنفسهم، بل
الخسارة ستشمل الوطن كله إذا غابت القيم وساد الفساد، كما نشهد من تزايد معدلات
الانحرافات السلوكية بما فيها الرشوة والاستبدا والظلم.