أخيرا، أفصحت صناديق الاقتراع عن نتائجها في الانتخابات البلدية في تونس، والتي أبرزت تقدم حزب حركة النهضة عن بقية المنافسين بما في ذلك حركة نداء تونس.
وهو نجاح يحسب للتجربة الديمقراطية الوليدة التي ظلت تواجه عواصف هوجاء، في ظل محيط إقليمي متقلب، خصوصا بعد انكسار موجة الربيع العربي وتشكل محور إقليمي معاد للتغيير والتوجهات الديمقراطية.
فوز حركة النهضة في هذه الانتخابات أمر مهم من الناحية السياسية والمعنوية، خصوصا في ظل التوجهات اللامركزية التي أقرها دستور الثورة الذي تمت المصادقة عليه سنة 2014 ومنحه صلاحيات موسعة للحكم المحلي.
ولكن الأهم من كل ذلك هو ترسيخ مسار التحول الديمقراطي في تونس، في مواجهة الموجة العاتية للثورات المضادة داخليا وإقليميا.
أعلنت النهضة منذ مؤتمرها العاشر الذي انعقد أواسط 2016 عن مجموعة من القرارات والتوجهات الفكرية والقرارات السياسية التي أخذت طريقها نحو التنزيل بصورة تدريجية ولكن ثابتة. ومن ذلك قرار الفصل بين الدعوي والسياسي، والانفتاح على قوى وفئات جديدة خارج دائرة القاعدة الصلبة للحزب
افرز هذا التوجه في بدايته ارتيابا في بعض الأوساط النهضوية التي خشيت من أن يؤدي إلى ابتعاد الحزب عن توجهاته الإسلامية التقليدية.
مثلما أثار قدرا غير قليل من التشكيك في أوساط سياسية وإعلامية كانت ولاتزال حريصة على حشر النهضة في قاعدتها الإسلامية الصلبة، كي يسهل عليها اللعب على ورقة الاستقطاب الأيديولوجي والمجتمعي، للاستثمار في المواجهة " الأزلية" المفتوحة بين "الإسلاميين" و"العلمانيين".
وفِي هذا السياق، تم ترذيل ترشيح النهضة لشخصيات نسوية مستقلة ومن غير المحجبات على راس قائماتها في الانتخابات البلدية في العديد من الدوائر الانتخابية، بزعم أنها مجرد مناورات من النهضة.
وهذا يعني في نهاية المطاف أن النهضة متهمة في كلتا الحالتين: فهي إما متهمة بكونها قوة دينية تقليدية ومجرد فرع من فروع الإسلام السياسي المناهض لكل قيم الحداثة والديمقراطية، أو مدانة بخيانة أصولها وتوجهاتها الإسلامية.
الحقيقة أن محطة الانتخابات البلدية وفرت فرصة عملية للنهضة كي تقطع خطوات جدية باتجاه ترجمة التوجهات السياسية التي أعلنت عنها في مؤتمرها العاشر، مثلما أتاحت للتونسيين اختبار مدى جدية التوجهات الجديدة للحزب وحجم تقدمه في الانفتاح السياسي على فئات مجتمعية جديدة خارج قاعدتها التقليدية.
هذا ما تجسد فعليا من خلال قوائم مرشحي النهضة في مختلف جهات البلاد التي كانت مناصفة بين المنتسبين للحزب والمستقلين من النساء والرجال والشباب.
وقد ساهم ذلك فعليا في ضخ دماء جديدة في الحياة السياسية التونسية، من خلال دخول وجوه وقيادات جديدة للمشهد السياسي والحكم المحلي، مثلما أعطى زخما وحيوية للجسم النهضاوي، حيث تصدر هؤلاء حملاتها الانتخابية وعملها التواصلي الميداني.
هذا التطور الفكري والسياسي الذي تعيشه النهضة هو سير في الاتجاه الصحيح، رغم بعض الصعوبات التي تعترضه من هنا وهناك.
ففي ظل ما تشهده تونس من انفتاح سياسي جدي، مقارنة ببقية الدول العربية، ليس هناك ما يمنع القطع مع شمولية الحزب (أي الجمع بين كل الوظائف) والتوجه نحو التخصص الوظيفي.
النظام الديمقراطي يقتضي بالضرورة وجود أحزاب قوية ومهنية، مثلما يستلزم توزيع الوظائف بطريقة عقلانية ومتوازنة.
هكذا، تقوم الدولة بالمسؤوليات المناطة بعهدتها في حماية الأمن الداخلي والخارجي وضبط سير المجتمع، ويقوم المجتمع المدني بدوره المطلوب، وتؤدي الأحزاب وظائفها المعهودة في إدارة الشأن السياسي وتأطير منظوريها، على أن تبقى الهيئات والمؤسسات الدينية بعيدة عن التجاذبات الحزبية، وتعمل بصورة مستقلة عن تدخل الدولة والاعتبارات الحزبية.
كما أن انفتاح النهضة على مختلف الطاقات، بما فيها غير المتحزبين والمستقلين، وخصوصا من النساء غير المحجبات، يعكس توجها سليما نحو بناء حزب وطني جامع يستوعب قاعدة اجتماعية موسعة ويعكس حالة التعدد والتنوع التي توجد في المجتمع التونسي.
التحدي المطروح اليوم على النهضة هو كيف تستطيع أن نكون حاضنة لكل الكفاءات والطاقات الوطنية التي ترغب بالمساهمة في الجهد الوطني وإدارة الشأن العام، من خلال الاستفادة من هذه الطاقات والخبرات في تطوير البلد والارتقاء بأوضاعه العامة. وهذا يشمل قطاعا واسعا من النساء غير المحجبات اللواتي يردن المشاركة في العمل العام، وربما لم يجدن القنوات المناسبة لتفعيل طاقاتهن في خدمة المجموعة الوطنية.
رغم حرص بعض النخب التونسية على تجميد الحياة السياسية في خانة الصراع الأيديولوجي في اطار ثنائية ما يعرف بالصراع الإسلامي العلماني، أو ما يسمى بصراع المشاريع المجتمعية، فقد بات جليا أن اهتمامات التونسيين لا تتعلق اليوم بالأيديولوجيا وقضايا الهوية، بقدر ما تتركز على الأولويات الاقتصادية والتنمية.
المجتمع التونسي شديد الانسجام ولا تشقه صراعات طائفية أو دينية، وما يشغله حقيقة اليوم ليس سؤال الأسلمة أو العلمنة (فهذه قضايا النخب) بقدر ما يهمه الارتقاء بأوضاعه المعيشية والتنموية، من تعليم وصحة ونقل وشغل وتحسين للقدرة الشرائية وغيرها.
لكن رغم الانسجام المجتمعي في تونس، إلا أن هناك تفاوتا تنمويا حادا بين جهاتها وفئاتها، ترسخ بفعل الخيارات الاقتصادية الخاطئة التي انتهجت منذ بداية الاستقلال.
والتحدي الرئيسي اليوم هو: من ينهض بهذه الجهات المحرومة ويحسن ظروف عيش التونسيين، وخصوصا بين الفئات الاجتماعية الأقل حظا؟
وقد فهمت النهضة أنها في حاجة إلى أن ترسخ توجهاتها الديمقراطية الإسلامية ولكن في اطار حزب وطني جامع يعطي الأولوية للمشاكل العملية على الاعتبارات الأيديولوجية، بما يجعله قادرًا على احتضان كل من يرغب في خدمة الشأن الوطني والارتقاء بالأوضاع الاقتصادية والتنموية للتونسيين.
إن محطة الانتخابات المحلية هي فرصة في اتجاهين: فرصة لقطاع المستقلين وغير المتحزبين لأخذ موقعهم في إدارة الحكم المحلي والمجالس البلدية، بحيث يكون المقياس الرئيسي الذي يوزن به النساء والرجال هو كفاءتهم وقدرتهم على إدارة شؤون المواطنين.
وهي فرصة أيضا لحزب النهضة ليتقدم أكثر باتجاه المجتمع التونسي وينفتح على مختلف شرائحه ومكوناته، وان يشكل إطارا لصقل الكفاءات الوطنية ومزيد اكتساب الخبرة السياسية، وفق الدور الطبيعي والمعهود للأحزاب السياسية.
إن هذا التوجه الجديد حري بأن يفتح آفاقا واعدة في العالم العربي باتجاه الخروج من ثنائية الإسلام السياسي، مقابل التيار العلماني أو الحداثي، لصالح التوجهات الوطنية الجامعة، فيترابط معطى الهوية الإسلامية مع التوجهات الحداثية الديمقراطية، وتستجيب السياسة لحاجات النهوض والتنمية المتعثرة.
وإذا قدر لهذه التجربة النجاح فمن شانها أن تجذر التوجهات الديمقراطية في المنطقة العربية، بديلا عن الدكتاتوريات الشرسة وحالات الفوضى والحروب الأهلية التي تعصف بمجتمعاتنا.