يجب على الباحِث المسلم التفرِقة في الدرس والتناول بين "الحركة الإسلامية"، و"الحركات الإسلامية". فالأولى هي المجتمع الأفق/النموذج؛ أو المثال التاريخي الذي يسعى له كل مجتمع مسلم في حركته، بدعوة الخلق إلى الله في كل أنحاء الأرض.
ورغم أنه أفق تجسَّد في مثال تاريخي واقعي بأهل الصدر الأول، إلا أن هذا المثال التاريخي عينه صار صيرورة لا تتحقَّق تحققا نهائيّا في حركة ما تلاهُ من القرون، وإنما يتحقَّق إسلام المجتمعات التالية بمجرَّد إخلاص السعي، ولا يُتعبَّد ببلوغ المثال. إذ لم يُكلَّف البشر إلا بأن يأتوا منه ما استطاعوا. ولهذا المسعى خصائص معينة يُمكن تجريدها من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسُنته، وسير صحبه الراشدين.
فهو في نهاية الأمر، وفي التحليل الأخير؛ محاولة المجتمع المسلم -أي مجتمع يُسلم وجهه لله- السمو إلى الدرجة الأخلاقيَّة والروحيَّة التي سما إليها أهل الصدر الأول في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي المحاولة التي تُعيد تشكيل الاجتماع الإنساني على قواعِد جديدة، فتُعيد صياغة الواقع بجملته.
بمعنى أن الحركة الإسلاميَّة ليست تنظيما سياسيّا مُغلقا، لكنها انتظام جمهرة المجتمع المسلم طوعا على وجهة واحهة، بالنفس والأهل والمال؛ حتى يصير لهذا الانتظام مآل سياسي قد اصطبغ بمنطلقاته وقيمه.
أما "الحركات الإسلامية"، كما اطردت الإشارة إليها في الاصطلاح الحديث؛ فهي التنظيمات والجماعات والهياكل الحداثيَّة المغلقة، المحدودة العضويَّة ذات الطبيعة الحزبيَّة، التي ظهرت في ربوع العالم الإسلامي خصوصا بعد سقوط "الخلافة" العثمانيَّة.
وربما جاز لنا أن نسلك بعض حركات "الإحياء"، السابقة على سقوط "الخلافة"؛ في سلك الحركات الحداثية.
إلا أن الدعوة السنوسية -مثلا- يجب أن تُسلَك في السلك الأول لسبب رئيسي ومهم؛ أنها لم تسع لإيقاف حركة الدعوة بتكوين دولة اعتسافا، كما أحدثت الحركة الوهابية في نجد. بل ظل الغرب يضغط عليها بشدَّة لتؤسس دولة لها "كيان" جغرافي واضح وسُلطة هرمية صلبة يمكن اختراقها وتوظيفها، وهو ما لم يتم إلا باستشهاد السيد عمر المختار، ومن قبله بنفي السيد أحمد السنوسي.
وقد أدى تحول الدعوة/الحركة السنوسية إلى دولة لتوقف حركتها والقضاء على دعوتها.
والحركة الإسلامية (المثال) لا يُمكن "تنقية" صفّها كما يفعل الحزبيون بجماعاتهم وتنظيماتهم، فهي مُجتمع كامل بخيره وشره، يحوي مجاهدين وقاعدين، وضعفاء ومنافقين.
وشتان بين المجتمع الرباني الذي يضم أخلاطا من البشر، كما تضم النفس الواحدة بين جنبيها شتى النوازع؛ وبين الأحزاب التي تحرص على تنميط المنتمين لها، وصبهم في قالب أيديولوجي "طهوري" واحد! ففي المجتمع الرباني تحمل الجماعة الإيمانية هذا المجتمع حين تزكو، وتعرُج به إلى الله، وهو هدف وجود المجتمع ووجهته؛ فلا يُضيره نفاق المنافقين ولا كيد من في قلوبهم مرض ولا ضعف الضعفاء.
أما الحزب، فإن هدفه ليس العروج إلى الله بالدعوة إليه، بل هو مرتبط أصلا بحزمة أهداف دنيوية آنيَّة تجعل من وجوده التنظيمي وهرميته الثقيلة أمرا مُحتملا في حس المنتمين له (دولة الخلافة، تقنين الشريعة، أسلمة الاقتصاد إلخ إلخ). لهذا، فقواعد الحزب أكثر صرامة وجمودا وانغلاقا، وقربا من الشرك!
إن التصور الحزبي بطبيعته وتكوينه وتعريفه تصورٌ طوباوي. ذلك أنه يفترض أصلا مفاهيميّا متخيلا على درجة مُتوهَّمة من النقاء الأيديولوجي، ويسعى لفرضه قسرا على الواقع، ولو كان ذلك بالحديد والنار؛ كما يتجلى ذلك في كل من النظامين السياسيين السعودي والإيراني.
أما الحركة الإسلامية، فهي لا تسعى لفرض أي تصورات مسبقة على الوجود؛ فهدفها في الأصل تزكية الفرد لتزكو به الأرض. لذا، فإن عروج الأفراد إلى الله فرادى في هذا المجتمع هو الذي يشكل قاطرة عروج مجتمعهم، بضعفائه ومنافقيه؛ وهو عروج معلق بدوام الاجتهاد في فهم الوحي وتمثله داخل التاريخ، أي مرتبط بالحركة الإنسانية للمسلم داخل التاريخ.
بناء على هذا؛ يمكننا بسهولة تبيُّن مواضع "العلمنة" الكثيرة في تصورات "الحركات الإسلامية" صاحبة الأيديولوجيات السياسية الحداثية، والوقوف على مواطن الخلل في تصوراتها، في حين لا يمكن الحديث مثلا عن علمنة "الحركة الإسلامية" كأفق رباني نعرف جيدا أنه لا يتحقَّق كليّا داخل التاريخ بسبب الضعف البشري، فهو صيرورة مفتوحة لكلّ مجتهد. ولكل مجتهد نصيب.
وخلاصة ما أذهب إليه تتجلى في المثل التالي: أن "الحركات الإسلامية" الحديثة تنبذ ياسر البرهامي وعلي جمعة ابتداء، وتشوههم أخلاقيّا وتنزع عنهم كل فضيلة، وذلك انطلاقا من مواقفهم المناوئة أيديولوجيّا؛ لكنها رغم ذلك قد تتصالح معهم مُستقبلا، بل وتتحالف مع هم هو شرٌّ منهم لمصالح سياسية وانتخابية وحزبية! فالأولوية هنا للمصلحة الحزبية/التنظيمية.
أما "الحركة الإسلامية" بوصفها أفقا اجتماعيّا/دعويّا، فإنها تحرص على البرهامي وعلي جمعة كما تحرص على باقي أفراد المجتمع المسلم، فهي لا تقبلهم فقط إن عادوا إلى الله وتابوا عمَّا اجترحوا، بل إنها تحرص على توبتهم ورجوعهم لصف الأمة أكثر من حرصها على تصيُّد سقطاتهم ولعنهم و"التنديد" بما فعلوا. فالأولوية في الحركة الإسلامية للفعل الدعوي مع كل أحد. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.