عندما كتبت مقالي: (الإخوان تاريخ تسعين عاما لم يكتب بعد)، عقب بعض الإخوة بذكر كتب تناولت تاريخ الإخوان، وأنا أعرف جيدا ما كتب عن تاريخ الجماعة، وهو لا يعبر حقيقة عن تاريخها بما نقصده بكلمة (تاريخ الجماعة)، وهي نقطة سلبية في أداء الجماعة التي ملأت الدنيا، وشغلت الناس، وقامت بدور كبير في الحياة السياسية والدينية والفكرية والاجتماعية في الوطن العربي والإسلامي، بل والغربي، ومع ذلك لا يوجد –حتى الآن– كتاب جامع لتاريخها، نعم هناك محاولات تمت، ولم تكتمل، وعليها ملاحظات علمية كبيرة، وهو ما دعاني لكتابة هذه السلسلة من المقالات عن تاريخ الإخوان، والتجارب التي قامت لكتابته، والملاحظات المهمة عليها.
فقد ظلت جماعة الإخوان المسلمين فترة من الزمن، لا تتناول تاريخها تناولا موثقا بالكتابة، بل ظلت تتناوله تاريخا شفهيا، ولم تتناوله جماعيا منهجيا، فكانت كل التناولات الأولى لتاريخها كتابات شخصية فردية، بداية بالشيخ حسن البنا مؤسس الجماعة، عندما كتب مذكراته على هيئة مقالات في جريدة (الإخوان المسلمون) اليومية، تحت عنوان: (مذكرات عن الدعوة والداعية) ثم جمعت بعد وفاته في كتاب يحمل عنوان: (مذكرات الدعوة والداعية) وكتب مقدمتها الشيخ أبو الحسن الندوي. وهو خطأ ممن جمعوها، فعنوان البنا للمقالات عنوان دقيق، فهي فعلا مذكرات عن الدعوة، وليست مذكرات الدعوة، وشتان بين العنوانين وما يتضمنه كل منهما من دلالة.
لكن هناك ملاحظات على ما كتبه الأستاذ البنا في كتابه: (مذكرات الدعوة والداعية)، أولى هذه الملاحظات: أن المذكرات التي كتبها البنا تمثل جانبا معينا من جوانب تاريخ حركة الإخوان، وهناك جوانب أخرى كثيرة لم يتناولها، كما أنه قبل وفاته ترك أجندة كتب فيها مذكرات يومية أخرى، عثر عليها شقيقه الأصغر الأستاذ جمال البنا وسلمها لنجله الأستاذ أحمد سيف الإسلام حسن البنا، ينبغي أن تضم إلى مذكرات البنا المنشورة.
وثاني الملاحظات: أن هذه المذكرات رغم نفاستها وأهميتها، فهي تمثل تدوينا مهما لأهم مرحلة من مراحل تكوين الجماعة، وبخاصة مرحلة الإسماعيلية ونشأة الإخوان، وهي مرحلة يندر فيها وجود كتابات دقيقة ترصد ما فيها، وقد كان الاعتماد على ذلك ما قام الأستاذ البنا بكتابته بنفسه، وقد قام بالكتابة بعد ما مر على الدعوة ما يقرب من عشرين عاما، ويقينا هناك أحداث ضاعت من ذاكرة البنا، أو رآها تفاصيل صغيرة على دعوة كبرت بهذا الحجم، لو كتبت وقت حدوثها لا شك كانت ستمثل له حدثا له دوره.
أما الملاحظة الثالثة: فتتمثل في إسراف الشيخ البنا في الحديث عن نفسه، بشكل ملحوظ جدا، وقد نبهني لهذه الملاحظة الشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل عندما كان في زيارة لقطر وقد صحبته في زيارة للشيخ عبد المعز عبد الستار رحمه الله في بيته، فسأله: يا مولانا ألا تلاحظ معي في مذكرات الدعوة والداعية حديث البنا عن نفسه كثيرا؟ فقال الشيخ عبد المعز: نعم ألاحظ.
الملاحظة الرابعة: أن المذكرات الشخصية لا تعد تاريخا وحدها، بل هي أداة من أدوات التاريخ، وعلى من يقرأها أن يدرك ذلك، مهما كانت مصداقية من كتبها، تظل تمثل رؤيته الشخصية للأحداث، وروايته لها، والصورة لا تكتمل مهما كانت مصداقية الشخص إلا بالزوايا الأخرى للحدث، وعلى المنصف والقارئ للتاريخ أن يدرك ذلك، فيضم بقية الروايات والأقوال والتحليلات لها، ثم بعد ذلك يوازن ويقارن، وليس في ذلك تكذيب لصاحب المذكرات أو الرواية، فهو لا يكلف إلا برواية ما رأى، عملا بالمبدأ الإسلامي: على مثل الشمس فاشهد، وقوله تعالى: (وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين) يوسف: 81. وهذه الملاحظات لا تقلل من قيمة مذكرات البنا، بل تضعها في موضعها العلمي الصحيح. وهناك تجارب أخرى للإخوان في محاولة كتابة تاريخهم، نكملها في مقالات مقبلة إن شاء الله.