في مقابلة مع البرنامج الإخباري "ستون دقيقة" قال ولي عهد السعودية الأمير محمد بن سلمان متحدثاً عن المملكة العربية السعودية ما قبل عام 1979: "كنا نعيش حياة طبيعية مثلنا مثل باقي بلدان الخليج. كانت النساء يقدن السيارات، وكانت هناك دور للسنيما في السعودية، وكانت النساء يعملن في كل مكان. كنا بشراً اعتياديين نتطور مثلنا مثل بلدان العالم الأخرى إلى أن وقعت أحداث عام 1979."
كنت في سبعينيات القرن الماضي فتى في سن المراهقة، نشأت في المدينة المنورة، في المملكة العربية السعودية. ما أذكره عن تلك السنين التي سبقت الكارثتين اللتين وقعتا في عام 1979 – حصار المسجد الحرام في مكة المكرمة والثورة الإيرانية – يختلف تماماً عما يحكيه ولي العهد محمد بن سلمان البالغ من العمر اثنين وثلاثين عاماً في حديثه الموجه للجمهور الغربي. لم يكن النساء يقدن السيارات، ولم أر امرأة تقود سيارة إلى أن زرت شقيقتي وزوجها في مدينة تيمب بولاية أريزونا عام 1976. أما دور السينما التي كانت لدينا فلم تكن سوى مقرات مؤقتة أشبه بالسينمات التي يدخلها الناس بسياراتهم في أمريكا، ولكنها كانت أبسط من ذلك بكثير. كان الفيلم يعرض على جدار كبير، وكان المرء يدفع ما بين خمسة إلى عشرة ريالات (أي ما يعادل ما بين دولار ونصف ودولارين) للمنظمين، الذين تناط بهم مهمة إنذار الجمهور إذا ما اقترب من المكان أفراد الشرطة الدينية. وفي إحدى المرات كسر صديق لي ساقه حينما قفز من فوق جدار أثناء هربه سعياً للإفلات من قبضة هؤلاء الشرطة. في سبعينيات القرن العشرين، كانت الأماكن الوحيدة في شبه جزيرة العرب التي كان النساء يعملن فيها خارج البيت أو خارج المدرسة هي الكويت والبحرين.
لم يكن أول حكم نال من حقوق النساء السعوديات ناجماً عن حملة مارستها السلطات الدينية الوهابية أو بسبب إصدار فتوى ما. يذكر كثير من السعوديين الحكاية المحزنة للأميرة السعودية البالغة من العمر تسعة عشر عاماً التي حاولت الهرب من البلاد مع عشيق لها. انتهت القصة بإعدامهما جميعاً، وقد سطرت تلك المأساة في فيلم وثائقي درامي بريطاني عام 1980 بعنوان "موت أميرة". جاء رد الحكومة على محاولة الأميرة الفرار سريعاً وحاسماً، وتمثل في التشدد في عزل النساء، وحظر السفر على أي امرأة دون الحصول على موافقة من ولي أمرها الذكر.
وفي عام 1980، أرسل وزير الصناعة والكهرباء غازي القصيبي رسالة كتبها بخط يده إلى الملك خالد يحذر من عواقب الإجراءات التقييدية التي فرضت على ظهور صور النساء في الصحافة المطبوعة وفي وسائل الإعلام المرئية، وطلب من الملك إعادة النظر في تلك السياسات قائلاً: "حتى لا نصبح نموذجاً للتشدد والتخلف أمام العالم بأسره." إلا أنه تم تجاهل رسالته تماماً.
يرغب محمد بن سلمان في تقديم سردية جديدة لتاريخ بلادي المعاصر، وهي سردية تعفي الحكومة من المسؤولية عن تواطؤها في تبنى المذهب الوهابي المتشدد، الأمر الذي يناقض حقيقة ما وقع. على الرغم من أن محمد بن سلمان محق في تحرير المملكة العربية السعودية من قبضة القوى الدينية المحافظة والمتعصبة، إلا أنه مخطئ في مسعاه للدفع بنوع آخر من التطرف، والذي لئن بدا أكثر ليبرالية وأكثر قبولاً لدى الغرب، إلا أنه لا يقل تشدداً في رفضه لكل مخالف أو معارض.
لقد رحبت المملكة العربية السعودية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي بالمصريين الذين لاذوا بالفرار من مصر خشية أن يعتقلهم رئيسها جمال عبد الناصر عقاباً لهم على معتقداتهم. كان عدد كبير من هؤلاء من منتسبي جماعة الإخوان المسلمين. وقد جلبوا معهم إلى المملكة مقاربات جديدة نحو الفكر الإسلامي والشريعة الإسلامية رحب بها كثير منا بما في ذلك قادتنا وزعماؤنا.
وكان الملك فيصل، الذي اغتيل في عام 1975، قد أقام أول مدارس حكومية للبنات في ستينيات القرن الماضي، وهي الخطوة التي عارضها بشدة منتسبو المؤسسة الدينية. وكان يرى ضمن سعيه الحثيث لإعداد البلاد للدخول إلى القرن الحادي والعشرين بأن جماعة الإخوان المسلمين يمكن أن تشكل ثقلاً موازناً لرجال الدين التابعين للمدرسة الوهابية.
وضع الملك فيصل ثقته في الشيخ الموقر مناع القطان لكي يحدث النظام القضائي السعودي. وما لبثت أن بدأت عجلة الإصلاحات، التي كانت مستحيلة حتى ذلك الوقت، بفضل ما كان يتمتع به أعضاء جماعة الإخوان المسلمين من علم ودراية، بما في ذلك في مجال قوانين العمل، وتدريس اللغة الإنجليزية ومادة الكيمياء، والتشكيل الجزئي للائحة القوانين. والآن تعمل وسائل الإعلام السعودية بتشجيع من الحكومة على شيطنة الشيخ القطان بحجة أنه كان عضواً في جماعة الإخوان المسلمين. فما الذي طرأ حتى يصبح الإخوان مكروهين لهذه الدرجة؟
لا يجرؤ الناس في السعودية الآن على النطق، وشهدت البلاد وضع قائمة سوداء بأسماء كل من تجرأوا ورفعوا أصواتهم، وسجن المثقفين والشخصيات الدينية التي صدر عنها ولو القدر البسيط من النقد، وأخيراً حملة مزعومة لمحاربة الفساد شملت العديد من كبار الأمراء ورجال أعمال. ورأينا كيف أن الليبراليين الذين كانوا يوماً مستهدفين من قبل متشددي الوهابية بالرقابة والحظر قاموا الآن بقلب الطاولة عليهم، فهم الآن من يقوم بحظر كل ما يبدو في نظرهم متشدداً، مثل منع تداول مختلف الكتب في معرض الكتاب الدولي الشهر الماضي. قد تراود المرء نفسه على الإشادة بهذا التحول مائة وثمانين درجة، ولكن ألا يجدر بنا أن نطمح في رؤية سوق للأفكار يفتح في بلادنا؟
أتفق مع محمد بن سلمان في وجوب أن تعود البلاد إلى مناخ ما قبل عام 1979 حينما كانت الحكومة تفرض قيوداً على التقاليد الوهابية المتشددة. ينبغي أن ينعم النساء اليوم بنفس حقوق الرجال. وينبغي أن يتمكن جميع المواطنين من التعبير عما يجول في خواطرهم دون خوف على أنفسهم من السجن. أما استبدال أساليب التشدد القديمة بطرق قمع جديدة فليس الجواب بحال.
(ذي واشنطن بوست)