للضحك أنواع متعددة، فهناك الضحك الرائق الصافي لمداعبة بريئة، ذاك الذي يصدر في لحظات نادرة من التصالح مع الذات والانسجام مع المحيط، وهو نوع، أشهد الله، أنني لم أعد أذكر متى وأين تصادف أن كانت آخر مرة عرفته فيها. وهناك الضحك المجلجل لدى موقف أو مفارقة تحفل بما يضحك من التناقضات والعبثية، أو لدى تعليق أو مزحة، غير أن الضحك لا يعبر بالضرورة عن مشاعر إيجابية؛ فهناك ضحك عصبي يعكس التوتر والإحراج، وهناك ضحكٌ يعبر عن النقد حين يكون مستهزئا ساخرا ولا ننسى في هذا السياق الضحك الممرور، ذلك الذي يفيض حنقا وغيظا، كما أننا في مآزق واستعصاءات تاريخية معينة، حين يسد الأفق مشهدٌ كئيب بليد قد لا نجد مفرا من الموت كمدا، سوى التعامل معه بالسخرية والضحك. وقد اندهشت حين أدركت أنه بالإضافة إلى فرويد الذي تناول الضحك بالتحليل منطلقا من اهتماماته العلمية النفسية، فإن فلاسفةً كبارا كنيتشه وشوبنهاور قد تناولوا الضحك بالتعليق والتعمق بدرجة ما.
وفي سياق ما نشهد الآن، فإن بواعث الضحك أكثر من أن تحصى، وإنه لمن التقصير أن نهمل الضحك من فرط العبثية، وغياب العقل وانزواء المنطق أحيانا. ثلاثة أيام شكلت فترة الانتخابات الرئاسية في مصر بين السيسي ومرشحٍ مغمور كان حتى عشية الانتخابات داعما للسيسي، ثم جيء به في اللحظة الأخيرة لتكملة «ديكور» المشهد الانتخابي، إلا أن الرجل لم يقصر إذ ظل وفيا فأدلى بصوته للسيسي! قمة الهزل ونموذج آخر لما يثير الضحك، بل يفجره. وربما لزم تنشيط الذاكرة هنا باستدعاء سيرة بعض المرشحين، الذين أُبعدوا عن الساحة إما حبسا أوترويعا، وقد كانوا جديرين بتكوين نواة تلتف حولها أعدادٌ قد تتراوح بين الرمزية وأن يعتد بها تعبر عن الرفض. إلا أننا الآن لن نعلم حجمها الحقيقي. كانت هناك حاجة لمرشح رئاسي منافس، إلا أنه ليس «منافس قوي يعني»! وقد التقطت للرجل بضع صور وربما زاد ذلك الفصل الهزلي البائس من وجاهته الاجتماعية، ومن يدري ربما أضاف ذلك لبطاقة تعارفه لتصبح فلان الفلاني: مرشح رئاسي سابق.
لذا تجد البعض يتحذلق معلقا بأنها «انتخابات بنكهة الاستفتاء»، ولا أعلم من الذي أدخل حديث النكهات في القاموس الدارج، إلا أنها تستدعي الميوعة والمواربة في التعبير ولا تحيل إلا إلى معاني الزيف كالتبغ بنكهة التفاح أوالبطاطا المقرمشة بنكهة الكباب، فلا الأول صار تفاحا ولا الثاني لحما، ولا تعدو جميعها أن تكون تعابير باهتة عن مشهد عبثي وغبي تماما، ناهيك عن كونه محيرا.
ثمة ملاحظاتٌ فارقة في ذلك المشهد، فليست بالمرة الأولى التي «تُهندس» فيها الانتخابات في مصر، إلا أن أساليب أكثر فجاجة وفظاظة قد اتبعت هذه المرة. والشاهد أن هناك حرصا مسعورا لكي يبدو الإقبال مرتفعا، خاصة في ظل عزوف الشباب الذين يشكلون ما يقارب الستين في المئة من الشعب المصري الآن، أولئك الذين كانوا وقود الثورة ولم يجنوا شيئا سوى المزيد من التضخم وارتفاع الأسعار والبطالة، إذا كانوا محظوظين بعيدين عن السياسة والحبس أو احتمالاته لدى قربهم منها. وقد اعتمد النظام على الإعلام بكل أبواقه في حملة شحن مبالغ، فيها حد النفور والغثيان لحفز الناس على النزول واستنفارهم بالضرب على وتر الأمن والاستقرار ومحاربة الإرهاب، تلك الكلمات السحرية التي أثبتت وزنها ولا مهرب من الاعتراف بأنها أسهمت (بالتضافر مع ضعف فرص نجاح أي عملٍ احتجاجي جراء اليد الأمنية الثقيلة) في ترجيح كفته، إزاء إجراءات عديدة كانت في حد ذاتها كفيلة بإفقاده الشعبية؛ إلا أن النظام لم يكتف بمجرد الشحن، بل عمد إلى الشحن إذ سيق عمال الشركات والمصانع في سيارات معدة خصيصا للتصويت، كما استغل بعض أعضاء مجلس الشعب في مناطق بعينها عصبياتهم لزيادة الأعداد.
من الواجب هنا الاعتراف أيضا بأن بين مؤيدي السيسي من تضيرهم سياساته بشكل مباشر، أيضا بدعوى الأمن والخوف من مصير كسوريا والعراق، تلك الصيغة التي ابتذلت من كثرة تردادها.
لعل الخلاصة التي وصلت إليها عن نفسي، أن هذه الجولة من الانتخابات لتؤكد الإعياء التام للناس، والخوف؛ خوفٌ عميقٌ مزلزل. عن نفسي لم أشعر بالاستياء، ولم أتعجب من مشاهد الرقص أمام اللجان؛ فهو في نهاية المطاف تنفيس عن الضغوط اليومية واحتياج، فالحياة خانقة، وكل يوم محنة، والفرص شحيحة، والمستقبل مظلم ولم يبق للناس سوى أن يتشبثوا بالأمل منتهزين فرصة بهجة عابرة.
كما أثبتت الانتخابات أن البلد معقد للغاية، وأننا لا ينبغي أن نستهين بمعرفة قرون استشعار النظام بالناس وفهمهم. لا شك أنهم أخطؤوا في 25 كانون الثاني/يناير، إلا أن ذلك لا يعني أنهم، على غبائهم وفظاظتهم، لا يعملون ولا يجمعون معلومات وبالتالي يمارسون شتى أنواع الضغط.
لكن السؤال الأهم يظل: ما هو سر هذا الاهتمام بعدد من أدلوا بأصواتهم، ذلك الهوس الذي حدا بالسلطات لإشاعة جو من الخوف من تطبيق غرامة تصل إلى خمسمئة جنيه على المتخلفين (وهو ما قد أحدث أثره بالفعل)، وما تسبب به انخفاض الإقبال بالتالي من قنوط دفع بعض المسؤولين إلى الإدلاء بتصريحات موبخة معنفة للجمهور، لم تثر سوى الضحك هي الأخرى؟
في يقيني أن الإجابة تكمن في نوايا النظام المستقبلية وخططه الأوسع. ليس سرا أن حزمة من الإجراءات الاقتصادية القاسية مزمع تنفيذها مع حلول الصيف، وأنها ستشكل ضربة موجعة لقطاعات عديدة قد أفقرها النظام بالفعل بسياساته الاقتصادية، وعلى رأسها التعويم وما نتج عنه من تضخم. بالإضافة إلى ذلك وعلى صعيد خارجي إقليمي، فإن إعادة ترتيب أوراق المنطقة ورسم تحالفاتها (أو إخراج بعضها إلى العلن إذا شئنا الدقة) وإن كانت قد تعثرت، إلا أن أطرافا إقليمية على رأسها إسرائيل والسعودية ومصر تدفع في ذلك الاتجاه، وبالتالي فإن النظام في حاجة إلى ما يثبت شعبيته في صورة نسبة إقبال عالية على التمديد للرئيس، بالقدر نفسه الذي يحتاجها ليسكت أي احتجاج قد يرتفع من الغرب وأمريكا بالتحديد على ملف الحريات وحقوق الإنسان، أو داخليا وخارجيا على أي تعديل دستوري.
ليست هذه بانتخابات ولم يكن ذلك الغرض منها من الأصل، وإنما هي خطوة لاستيفاء الشكل وتجديد التفويض على المضي في امتداد الطريق سواء على مستوى الانحياز الاجتماعي- الاقتصادي أو السياسي وكلاهما منسجمان، واستكمال العصف بثورة 25 كانون الثاني/يناير حتى على مستوى الشكل في صورة الدستور، بعدما تم الالتفاف عليها في الممارسة الفعلية عن طريق القمع وكبت الحريات، والتنكيل بكل من تصدرها ومازال ثابتا على مبدئه.
مجرد جولة أخرى من العبث الممل، ليس إلا.
نوعٌ آخر من الضحك فاتني أن أذكره على قدمه، التفت له المتنبي حين كان في مصر ورأى الناس (وهو على رأسهم) يتفننون في التغني بالعبد المخصي كافور، ويقدمون له فروض الولاء والطاعة، «ضحكٌ كالبكا».
القدس العربي