هرولة عربية غير مسبوقة نحو التطبيع مع إسرائيل. يتسابق الحكام العرب
على تأدية شعائر الولاء والطاعة لتل أبيب، وفي الوقت ذاته تُغدق الأنظمة العربية
من خيرات أمتنا على الأمريكيين الذين يقررون حجب مساعداتهم عن الفلسطينيين.. حالة
ازدراء غير مسبوقة في تاريخنا الحديث.
حالة
التردي التي يعيشها العالم العربي والإسلامي اليوم تعيد إلى أذهاننا رواية ابن
كثير في كتابه «البداية والنهاية» عن سقوط بغداد بأيدي المغول سنة 656 للهجرة
(شباط/ فبراير 1258 للميلاد)، حيث يُشير إلى أن التتار وصلوا في إذلال العرب لدرجة
أنهم يرسمون خطا على الأرض أو في الهواء لأحدهم فلا يتجاوزه؛ خوفا منهم.
ويقول
ابن كثير عن واقعة سقوط بغداد: «كان الرجل يُستدعى فيخرج بأولاده ونسائه، فيذهبون
به إلى مقبرة الخلال تجاه المنظرة، فيُذبح كما تذبح الشاة، ويؤسر من يختارون من
بناته وجواريه»، ويضيف: «ودخل كثير من الناس في الآبار وأماكن الحشوش، وقنى الوسخ،
وكمنوا كذلك أياما لا يظهرون».
المشهد
العربي اليوم يبدو على الدرجة نفسها من الإذلال، أو ربما أسوأ، وإن كانت الأشكال
والأساليب هي التي اختلفت وتطورت، فمشهد الخليفة العباسي متوسلا لهولاكو هو ذاته
مشهد الحكام العرب وهم يتوسلون ترامب في البيت الأبيض، ويزحفون نحو تل أبيب؛ طمعا
برضاها وأملا بنيل القبول من نتنياهو.. لا يختلف الأمرُ كثيرا!
يتساءل
كثيرون عن أسباب الهرولة العربية لإسرائيل، والرغبة الجامحة لدى بعض أنظمة العرب
لإقامة علاقات مع إسرائيل، وكأن العالم الذي يضم أكثر من مئتي دولة قد ضاق عليهم
ولم يعد ينقصهم فيه سوى سفارات إسرائيلية في عواصمهم وسفارات لهم لدى تل أبيب. رغم
أن هذه الدول العربية ذاتها ليس فيها سفارات لعشرات الدول الأجنبية ومع ذلك لم
تزحف نحو تلك الدول لتتسول منهم سفارة أو قنصلية.
تفكيك
هذا اللغز ليس صعبا؛ فما حدث في المنطقة العربية هو أن الأنظمة التي هبطت على
شعوبها بمظلات (دون انتخابات ولا أي مقدمات منطقية) ظلت طوال العقود الماضية تخدع
شعوبها بأنها منشغلة بالحرب مع إسرائيل، وأن هذه الحرب تحتاج الالتفاف والتلاحم
والوحدة والولاء والانتماء، وعليه فلا وقت لانتخابات أو حريات أو حقوق لأن
الأولوية هي تحرير فلسطين. وبطبيعة الحال لم تكن هذه الأنظمة تريد تحرير فلسطين
ولا قتال إسرائيل، ولم يكن أصلا في مصلحتها أن تتحرر فلسطين لأن النظرية
الميكافيللية التي ينام عليها الحكام العرب ويعملون بها هي: «افتعل عدوا خارجيا
حتى يلتف الداخل حولك ويقدم الدعم والتأييد لك»!
أما
الذي تغير في أعقاب ثورات الربيع العربي فهو أن الحيلة السابقة أصبحت منتهية
الصلاحية وغير قابلة للاستمرار، وأن الشعوب العربية تطالب بالتغيير، وعليه اتجهت
بعض الأنظمة العربية للتحالف مع إسرائيل طمعا في الدعم الأمريكي الإسرائيلي في
مواجهة أي خطر داخلي، وإدراكا من هذه الأنظمة بأن شرعيتها غير المستمدة من شعوبها
يمكن أن تُستمد من مصدر آخر، وليكن أمريكا وإسرائيل.
هي
«أزمة شرعية» إذن وليست أي شيء آخر، والزاحفون نحو التطبيع مع إسرائيل يريدون
تثبيت أنظمتهم والتسمر على كراسيهم بالتحالف مع إسرائيل.. إسرائيل التي كانت أيضا
طوال العقود السبعة الماضية سببا في بقائهم ولكن الدور الذي كانت تلعبه خلال تلك
العقود كان مختلفا. كانت هي العدو الصوري الذي يتم فيه تخويف الشعوب، واليوم هي
الحليف الحقيقي الذي سيتم استخدامه لتخويف الشعوب. وفي كلتا الحالتين فإن شرعية
الأنظمة ليست مستمدة لا من الشعب ولا من الرضا الجماهيري ولا بالعقد الاجتماعي ولا
بأي طريقة طبيعية ومنطقية لنشوء الدولة!
القدس العربي