ينبغي على أنقرة
وواشنطن استغلال الفرصة واستخدام الوجود العسكري التركي في سوريا للتصدي للفوضى
التي يثيرها نظام دمشق ومن يدعمونه بشكل أعمى.
من بين كل جيران
سوريا، تتمتع تركيا بموقع متميز يمكنها من التدخل.
بالنسبة للعراق –الذي
خسر الملايين من أبناء شعبه منذ سبعينيات القرن العشرين، وعاش واحدة من أطول
الحروب في القرن العشرين في صراع مع إيران، وعانى بسبب حصار ربما كان الأشد على
الإطلاق في الزمن المعاصر– لا تمثل سوريا لا أزمة وجودية ولا أولوية قصوى.
بينما تتطور أزمة
العراق الطائفية إلى حرب مدمرة وإذ يعيش ملايين العراقيين كلاجئين، فإن تأثير
الحرب الأهلية في سوريا على الاستقرار في العراق لا يكاد يذكر.
أما لبنان، الجار
الآخر لسوريا، فقد تأثر بشدة بالأزمة السورية، ولكن هو الآخر مر بتجربة معاناة
خاصة به من قبل، حيث دارت فيه رحى حرب أهلية طائفية ودينية طاحنة لسنوات، وألحق به
الاحتلال والعدوان الإسرائيلي دماراً ساحقاً.
سحب النظام السوري
قواته من لبنان قبل ثلاثة عشر عاماً، وكانت المفارقة العجيبة أن يرسل لبنان حزب
الله إلى الرئيس بشار الأسد كجيش للإنقاذ، ومن هذا المنطلق لا يخفى على أحد ما
تمثله الأزمة السورية من خطر على لبنان الذي مزقته الصراعات.
عداوة مريحة
كما لم يعد من غير
المألوف ما عليه الوضع في إسرائيل التي تعتقد بأن إيران تشكل تهديداً لها من خلال
القوى التي تتواجد بالوكالة عنها في سوريا، فمثل هذه المعادلة لم تلبث أن تهيمن على
الساحة اللبنانية منذ سنوات كانت علاقات إسرائيل خلالها مع سوريا توصف بأنها
"عداوة مريحة"، ولم تزل إسرائيل تسعى إلى الإبقاء على هذا الوضع المريح
طالما ضمنت تقييد وكلاء إيران وحصرهم عند نقطة لا يتمكنون نتيجة لها من شن حرب
واسعة النطاق ضد إسرائيل.
في نفس الوقت، عملت
إسرائيل بكل هدوء على استخدام الأزمة السورية وحالة الفوضى التي تعصف بالمنطقة من
أجل ترسيخ احتلالها للضفة الغربية وقطاع غزة.
في هذه الأثناء، استمر
الأردن في القيام بدور "المنطقة المحايدة" بينما انساب اللاجئون عبر
حدوده. وهذه ليست المرة الأولى التي يواجه فيها الأردن مثل هذا التحدي، فطالما وجد
نفسه مضطراً للتعامل مع الأزمة الفلسطينية على مدى عقود، ثم أصبح مركزاً لوجستياً
هاماً للحرب على تنظيم الدولة الإسلامية "داعش".
أما تركيا، التي تعتبر
الأكبر من بين جيران سوريا وتتمتع بقوة اقتصادية وعسكرية تفوق ما يتوفر لدى كل
الجيران الآخرين مجتمعين، فلديها تجربة تاريخية لا مثيل لها. رغم أن تركيا عانت
آلام مخاض ديمقراطي شديدة في الماضي إلا أن علاقاتها مع نظام بشار الأسد في سوريا
كانت مختلفة عن علاقات جيرانها العرب الآخرين به.
فإلى أن اندلعت الحرب
السورية، كانت علاقات أنقرة بدمشق تمر بفترة من الوئام والرفاه، وحينما تعرضت
سوريا لضغوط بالغة من قبل الولايات المتحدة في فترة احتلال العراق، خالفت تركيا
جيران سوريا الآخرين ومدت يدها لدمشق – ومازال مثل هذا الوضع مستمراً بشتى الطرق.
التعايش مع الإرهاب
في خضم المأساة
الإنسانية الهائلة التي شهدتها سوريا، لعبت تركيا دوراً محورياً، حيث استضافت ما
يقرب من 3.5 مليون لاجئ سوري منذ عام 2011 – وذلك على الرغم من أن تركيا نفسها
عانت من موجة من الإرهاب تمثلت في العشرات من الهجمات التي نفذتها داعش أو شنها
حزب العمال الكردستاني.
والمفارقة هي أنه
عندما هاجمت داعش حفل زفاف وأزهقت أرواح العشرات من المدنيين الأبرياء تناقلت
الخبر وسائل الإعلام الغربية، أما حينما صدر نفس العمل الإرهابي عن حزب العمال
الكردستاني فكان موقف وسائل الإعلام ذاتها هو التجاهل التام.
ومع استمرار الهجمات
وتصاعدها لم يعد متصوراً أن تلتزم تركيا الصمت وألا ترد على هذه الأعمال التي باتت
تهدد استقرارها السياسي والاقتصادي. ومع ذلك، كان هناك من الدول الأخرى من كان
يتوقع من تركيا أن تتعايش مع الإرهاب، حتى بعد تحول داعش إلى أداة تستخدم لشرعنة التدخل
في سوريا.
بحلول عام 2015 لم يعد
يوجد في سوريا طرف واحد لا يفترض فيه مقاتلة داعش، فمن المعارضة السورية إلى حزب
الله ومن حزب العمال الكردستاني إلى حزب الاتحاد الديمقراطي المنبثق عنه، ومن
المليشيات المدعومة إيرانياً إلى روسيا وانتهاء بالولايات المتحدة، لم يبق من
هؤلاء أحد إلا وادعى أنه يقاتل داعش في سوريا.
وعلى الرغم من أن
تركيا كانت محاطة بالإرهاب المتمثل بكل من حزب العمال الكردستاني وداعش إلا أن
دعوات أنقرة للقيام بعمليات برية ضد داعش كانت تقابل بالتجاهل، فما كان منها في
نهاية المطاف إلا أن أطلقت عملية درع الفرات لتطهر مناطقها الحدودية من المقاتلين
المسلحين، وكانت كل خطوة من خطوات هذه العملية غاية في الشفافية، وعلى مرأى ومسمع
من العالم.
وبناء عليه لا يمكن
اعتبار العملية العسكرية التركية الأخيرة في سوريا تحركاً مفاجئاً وغريباً، بل على
العكس تماماً من ذلك. لقد حذرت أنقرة وأنذرت، وبلغت كافة الأطراف في سوريا بأنها
لن تسمح لحزب العمال الكردستاني بالسيطرة على المناطق المحاذية لحدودها.
خطأ استراتيجي جسيم
أثارت عملية درع
الفرات ردود فعل معقدة من قبل الأطراف الأخرى المتدخلة عسكرياً في سوريا، وبشكل
خاص الولايات المتحدة الأمريكية. فقد كانت كثير من البلدان تحاول جاهدة إدارة
الأزمة السورية عبر وكلاء، وبشكل خاص عبر حزب العمال الكردستاني، بحجة دعم القوات
الديمقراطية السورية.
في مرحلة من مراحل
الأزمة السورية، كانت قوات حزب الاتحاد الديمقراطي تتصرف كما لو كانت عقاراً
زمنياً مشتركاً، فبينما كانت الولايات المتحدة تحتل أكبر مساحة في البلاد إلا أن
الأطراف الأخرى، بما في ذلك الأسد وإيران وروسيا، كانت أيضاً تستخدم حزب الاتحاد
الديمقراطي.
كانت تلك حالة من
الفوضى العارمة التي ما كان من الممكن التعايش معها. فحينما كانت مجموعة ما ترسل
انتحارياً عبر الحدود إلى داخل الأراضي التركية كان يطلق عليها اسم حزب العمال
الكردستاني، ولكن حينما تنشط نفس المجموعة داخل سوريا فإنه يطلق عليها اسم حزب
الاتحاد الديمقراطي. حينما تقاتل مجموعة ما ضد تركيا فإنها تسمى حزب العمال
الكردستاني ولكن حينما تقاتل نفس المجموعة ضد داعش فإنه يطلق عليها اسم قوات سوريا
الديمقراطية.
وحينما يشنون هجوماً
بالتعاون مع قوات الأسد فإنه يطلق عليهم اسم "القوات السورية"، وعندما
يهاجمون مجموعات كردية لا تنتسب إلى حزب العمال الكردستاني فإنهم يطلق عليهم وصف
"القوة العلمانية الوحيدة في الشرق الأوسط".
إلا أن شيئاً واحداً
لم يتغير: كل من يحاربهم ينظر إليه كما لو كان "يعتدي على الأكراد". وفي
وسط هذه الفوضى العارمة طورت الولايات المتحدة شراكتها مع حزب العمال الكردستاني
في صورته المستنسخة باستمرار إلى علاقة استراتيجية مريبة. وكان ذلك خطأ
استراتيجياً جسيماً ربما لم يكن ليقع لولا حالة الفوضى الحالية التي تعيشها مؤسسات
صناعة القرار الأمني والسياسي في واشنطن.
كان ضرباً من الجنون،
إن لم يكن مهمة مستحيلة، التوجه نحو تشكيل تحالف سائل مع مجموعة ماركسية لينينية
تصنفها الولايات المتحدة نفسها على أنها منظمة إرهابية. لم ينجم عن هذا التحالف
غير المبرر تسميم العلاقات التركية الأمريكية فحسب، بل لقد ثبت بالتجربة العملية
أن واشنطن ليست لديها قدرة على إدراك عواقب العبث بالتحالفات الجيوسياسية
الإقليمية أو التقليدية، وأن كل الأدوات التي يتم اللجوء إليها في حرب داعش تصبح
من وجهة النظر الأمريكية أدوات مشروعة.
إلى أين ستتوجه
الولايات المتحدة من الآن فصاعداً يتوقف على نتيجة قرارها اختزال استراتيجيتها
السورية بأسرها إلى شراكة مع حزب الاتحاد الديمقراطي.
تهميش حزب العمال
الكردستاني
لم تدخر أنقرة وسعاً
خلال السنوات الثلاث الماضية في تسليط الضوء، مراراً وتكراراً، على هذا الوضع الذي
يستحيل الاستمرار في السكوت عنه. وأعلنت تركيا أنها، وبعد الهزيمة المتوقع تكبيدها
لداعش، سوف تتدخل ضد حزب العمال الكردستاني وحزب الاتحاد الديمقراطي، وبأنها لن
تسمح إطلاقاً بإقامة مناطق يعلن فيها الحكم الذاتي. وفعلاً، تم الانتهاء من عملية
عفرين خلال شهرين من الزمن وتم إخراج قوات حزب الاتحاد الديمقراطي نهائياً من
المنطقة.
لم تكن عفرين مثل
الرقة. لم يفقد آلاف المدنيين حياتهم، ولم تشهد المنطقة قصفاً عشوائياً ولم تقع
فيها مأساة إنسانية، ولم يتحول مئات الآلاف من الناس إلى لاجئين. وحقيقة أن عفرين
لم تتحول إلى رقة أخرى، يمثل في حد ذاته نجاحاً باهراً.
وبإخراج حزب العمال
الكردستاني من عفرين، تم إنشاء "منطقة آمنة" جديدة، مما سيوفر استقراراً
نسبياً مقارنة بما عليه الوضع في مناطق سوريا الأخرى – وذلك على نسق ما جرى في
الأماكن الأخرى التي تم استنقاذها من أيدي حزب العمال الكردستاني. وينبغي الأن أن
يبرز نموذج حكم جديد في عهد ما بعد حزب العمال الكردستاني، الذي ما كان ليتمكن من
الاستيلاء على أي أراض ويديرها بأسلوب ستاليني لولا ما توفر له من دعم عسكري
أمريكي.
بات حزب العمال
الكردستاني بعد تكبده الهزيمة في عفرين أكثر تهميشاً. وكما هو الحال مع داعش، سوف
يستمر السوريون والكرد في التساؤل حول مدى مشروعية حزب الاتحاد الديمقراطي، تلك
المجموعة المسلحة التي ينضوي في صفوفها مقاتلون يساريون متطرفون أجانب وفدوا من
ألمانيا وإنجلترا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية. وسوف تواجه واشنطن مصاعب في
الحفاظ على تحالفها السائل مع حزب الاتحاد الديمقراطي الذي بات مهمشاً.
رسم خارطة طريق
وصلت الولايات المتحدة
إلى آخر الطريق في مجال استخدام شبكات إرهابية في القتال ضد شبكات إرهابية أخرى.
لقد كانت تلك استراتيجية سياسية عقيمة لا طائل من ورائها. وهي بلا شك مأساة مألوفة
في عالم الحرب بالوكالة، ولقد شهدناها من أفغانستان إلى سوريا. إذ ليست المشكلة في
إيجاد وكلاء لاستخدامهم في القتال، وإنما تكمن المشكلة الحقيقية فيما ستفعل بهم
بعد الانتهاء من المهمة التي جيء بهم لإنجازها.
شكلت الزيارة الأخيرة
التي قام بها وزير الخارجية الأمريكية السابق ريكس تيلارسون إلى أنقرة بارقة أمل
جديدة في العلاقات التركية الأمريكية، ووفر اللقاء بين تيلارسون والرئيس التركي
رجب طيب إردوغان فرصة للحوار الصادق حول القضايا المحلة وحول الحلول المتوقعة.
إلا أن تيلرسون ما
لبث أن طرد من منصبه ووصلت قوات الجيش السوري الحر المدعومة من قبل تركيا إلى وسط
مدينة عفرين. وستأتي الاجتماعات القادمة بشأن الملف السوري في واشنطن بعد كل هذه
التطورات التي لم تكن متوقعة.
من غير المحتمل أن
تبدأ الولايات المتحدة التعامل مع الملف السوري من الصفر بفريق جديد في واشنطن
تناط به مهمة وضع السياسة الأمنية ورسم العلاقات الخارجية. ينبغي أن يشكل إخراج
قوات حزب الاتحاد الديمقراطي من المناطق الحدودية التركية أرضية للدفع قدماً بالتعاون
التركي الأمريكي، وها هي الولايات المتحدة ترسل إشارات إيجابية بهذا الشأن. ويمكن
أن ينجم عن هذا التفاهم والتعاون رسم خارطة طريق جديدة، بما في ذلك إقامة مناطق
آمنة ومستقرة.
ينبغي على الولايات
المتحدة وتركيا معاً استغلال عفرين كفرصة لتمكين الوجود العسكري التركي في سوريا
من التصدي للفوضى التي يثيرها نظام دمشق ومن يدعمونه بشكل أعمى.