(1)
قبل زمن بعيد، وفي يوم حار جدا، توجه ناحية المدرسة، ودخل أحد الفصول، فسمع المعلم الصرصار يقول للصراصير الصغار في حصة الموسيقى والغناء: إن صوت الصرصار أجمل الأصوات؛ لأنه يصدر عن احتكاك الأجنحة، في حين أن الطيور تغرد بشكل رديء لأنها تستخدم الحنجرة (وهي عضو سيئ في الجسم البشري، يعجز عن إصدار أصوات جميلة). عندما سمع ذلك (وكان مديرا سابقا لمدرسة الصراصير)، هز رأسه عدة مرات معبراً عن ارتياحه أن أمور المدرسة تسير بشكل حسن كما كانت في زمانه.
(2)
في يوم من الأيام، وقف الشر في مواجهة الخير، وقرر أن يلتهمه لينهي إلى الأبد ذلك النزاع الهزلي بينهما، لكنه فكر قليلا عندما رأى الخير ضعيفا أمامه، وقال لنفسه: هذه فكرة خاطئة، فإذا التهمت هذا الخير الضعيف سيقتنع الناس بأني قمت بعملٍ شرير، ويلاحقني العار وأنكمش وأصبح ضئيلا جداً، وحينذاك يمكن للخير أن يلتهمني بسهولة، وسيعتبر الناس أنه قام بعمل جيد وصحيح؛ لأن قناعاتهم لم تتغير بأن أي تصرف يقوم به الشر سيئ، وأي تصرف يقوم به الخير جيد.. وهكذا نفذ الخير بجلده مرة أخرى.
(3)
كان هناك ضفدع أراد أن يكون ضفدعاً حقيقياً، وبذل كل جهوده لتحقيق ذلك.. في البداية اشترى مرآة، وظل يتطلع فيها ليتعرف على صفاته الأساسية، وكان يعتقد أحيانا أنه وجدها، وأحيانا لم يجدها. وذلك يتوقف على مزاجه والوقت الذي يتطلع فيه إلى نفسه. بعد ذلك حاول أن يبحث عن قيمته في عيون الآخرين، فاغتسل وصفف شعره ليبدو للآخرين ضفدعاً محبوباً. وسرعان ما اكتشف أن الناس تهتم بجسمه قبل أي شيء، وبشكل أساسي فخذيه، ولهذا راح يقفز وينط، وسط الإعجاب والتهليل، كي يقوّي فخذيه أكثر، وفي النهاية، لكي يحقق هدفه ويصبح ضفدعاً حقيقياً في نظرهم، وافق على أن يقطعوا فخذيه ليأكلوهما، لكنه شعر بألم ومرارة عندما سمعهم يقولون على مائدة الطعام: يا له من ضفدع لذيذ... كالدجاج!
(4)
في سالف العصر والأوان ظهرت في الغابة فصيلة غريبة من النباتات تعيش على التهام اللحوم، وشاع الخبر في أنحاء المدينة، وحملته الريح إلى الغابة، فخجلت فصيلة النباتات من طريقة حياتها؛ لأنها كانت حساسة جداً إزاء النقد، وبدأت تسعى لتطوير نفسها بشكل تدريجي وتروج قناعات جديدة لتحريم أكل اللحوم والتنفير منها، حتى صار منظره يصيبها بالغثيان، وقررت الفصيلة أن تصبح من النباتيين، ومنذ ذلك الحين راح أفرادها يلتهم بعضهم بعضاً، وعاشوا بضمير مرتاح دون أن يفكروا في ماضيهم "المخزي".
(5)
فكر حصان كيف تتخيل جماعته صورة الإله، فرأى أن هناك صعوبة في تصور سماء تسكنها الخيول، أو يحكمها إله بهيئة حصان، فهذا كلام غير منطقي وينافي الذوق السليم.. وأخيرا قال لنفسه: لا داعي للتأمل، فالكل يعرف جيداً أننا معشر الخيل إذا ما كنا قادرين على تصوّر الإله، فسنتصوره فارساً يركبنا.
(6)
ذات مساء شتوي شديد البرودة، حدق شخص في النار التي يتدفأ عليها في العراء، وتذكر الجنة فقال لنفسه: المؤكد أن في الجنة أصدقاء وموسيقى وبعض الكتب، ثم نظر إلى أعلى وهو يقول: لكن المؤسف أن المرء عندما يصعد إليها لن يرى بعد ذلك سماءً يتطلع إليها.
(7)
عندما استيقظ، كان الديناصور لا يزال موجوداً.
(توضيح)
متن المقال عبارة عن 7 قصص مكتملة المبنى والمعنى، والقصة الأخيرة منها مصنفة في مقدمة أدب "الميكرونوفيل"، وتحمل صفة "أقصر قصة في تاريخ الأدب" برغم أن هناك قصة أقصر منها لكاتب مكسيكي يدعى لويس فيليب لوميلي، لكن تظل قصة الديناصور للأديب اللاتيني "أوجستو مونتيروسو" هي الأشهر. أنا من المغرمين بأدب مونتيروسو المدلل من جانب النقاد والقراء معاً باسم "تيتو"، لذلك اخترت أن أقدمه لكم باختياري لهذه القصص السبعة، من دون تشويشها بالشرح، أو حصار دلالاتها الفضفاضة داخل تفسيرات فردية، فقد احتار نقاد العالم في تفسير دلالة "الديناصور" كما ورد في قصته الشهيرة، وكذلك دلالة الحيوانات التي يستخدمها بغزارة وحميمية في موضوعات قصصه، كأنه يعيد صياغة "كليلة ودمنة" بمزاج أمريكا اللاتينية وغموضها الموحي، وسحرها المزركش بالحكمة الإنسانية، وختاماً أؤكد أنني عندما أستيقظ كل يوم، لا زلت أصطدم بالحقيقة المزعجة: الديناصور لا يزال موجوداً.
tamahi@hotmail.com