واقفا كنت في الطابور، منتظرا دوري للوصول إلى شباك الجوازات في صالة
الوصول في أحد مطارات القاهرة، وتصادف حينذاك أن عائلة بريطانية وقف أفرادها خلفي.
كان
الطابور يتحرك ببطء، إلا أن الأمانة تقتضي الإقرار بأن أيا من أفراد تلك العائلة
لم يتأفف ولم يتذمر، كما لم يسع لكسره وتخطي دوره، بل الملاحظ كان التزامهم الصارم
بأسبقيته، على الأغلب انطلاقا من ثقافة عامة يحترم فيها الوعي الجمعي حقوق
الآخرين، بفعل حقب من الممارسة والمراقبة المجتمعية، فلا يتركها القائمون على
تنفيذ القانون في مهب الأهواء فريسة لنزغات وغرائز كل من لا يستطيع السيطرة على
تلك الرغبة الحثيثة لكسر القواعد واجتراح المحرم.
رغم
وجوب الحذر والتريث قبل التعميم، ناهيك عن إصدار الأحكام، إلا أنه لم يكن من الصعب
الوصول إلى قناعة بأن تلك العائلة على لطفها ودماثتها (كما تبدى من حوار عابر
تبادلته مع أفرادها أثناء الوقوف الطويل المنهك) تنتمي إلى أصول اجتماعية متواضعة،
تشف عنه لهجتهم وذلك الفيض من الوشم الذي يكاد يكسو أجسادهم.
لو
أن الأمر توقف عند هذا الحد لما علق في الذاكرة ناهيك عن كتابته، لكن المدهش
والغريب أنني حين وقفت عند الخط الذي يفصلني عن الشباك فوجئت بالشرطي (وقد استدل
من سحنتي ولون جوازي على جنسيتي) يشير للأسرة البريطانية بالتقدم عليَّ! ليس ذلك
فحسب، بل أصر وكاد يحلف عليهم بالطلاق إلا يتقدموا، رغم احتجاجهم ومحاولتهم
اليائسة التأكيد على أسبقيتي، وأن ذلك يعد تجاوزا فظيعا وغير جائز بالمرة، وبالطبع
لم يجدِ اعتراضي ولا عقيرتي التي رفعتها قدر المستطاع.
المهم
تقدموا وهم يتلعثمون بكلمات الاعتذار، وارتسمت على وجوههم تعبيرات، هي مزيج من
الخجل والدهشة، لم يفهموا، وأنَّى لهم أن يفهموا!
أنا،
نظريا المواطن في شبة الدولة باعتراف صاحب الدكان، أنا، نظريا صاحب المكان، كما
أنني بحكم المهنة ووفقا للتقييم الاجتماعي المتسيد الذي يحترمه ويلتزم به ذلك
الشرطي انتمي إلى طبقة اجتماعية أرقى من تلك الأسرة، إلا أن الشرطي المعتد ببلده
وبحضارتها وأبنائها، لم يستطع مقاومة الأوروبي، «الخواجة»، فلم ير ضيرا أولا من
كسر القانون، وثانيا من محاباة الخواجة على ابن بلده. لم يفهم هؤلاء أن الناس في
بلداننا، وتحديدا أجهزة الأمن أسود الشرى علينا، مسكونون بالغرب، وأن الرجل الأبيض
الأشقر ذا العينين الزرقاوين خرج ببارجته ودبابته منهيا وجوده المكلف المبهظ له،
إلا أنه ما يزال يحتل رؤوسنا وعقولنا، ولما لم أتصل بهم بعد ذاك فلا أعلم إن كانوا
فهموا بعد زيارتهم لمصر أم لا.
كما
أكاد أجزم بأنهم حاروا في عدم إصراري، فأنا لم أخبرهم أنني لا ظهر لي في منظومة
الأمن، ولن أشرح لهم لا جدوى المحاولة في أغلب الأحيان. لم أخبرهم بأن تلفيق التهم
والاختفاء القسري «أحداث عادية» لم يعد أحد يقف عندها ونادرا ما بات يتفاعل معها
عاطفيا، كما لم أخبرهم أن الناس في بلداننا الواقعة خارج التاريخ على رقعة العبث
والنسيان والتوحش، يذهب الناس وراء الشمس لأتفه الأسباب، فهم لم يصل إليهم العلم
بأن للشمس مؤخرة، ولا يعرفون كم العسف الذي يرسف فيه وجداننا وتحمله لغتنا الدارجة.
معذرة
على هذه المقدمة الطويلة إلا أن هذه التجربة تلح عليّ كلما تحدث أو تكلم أحدهم،
كاتبا كان أم سياسيا أم إعلاميا عن صورة مصر أمام العالم وسمعة مصر في الخارج، وقد
فعل أخيرا كاتب بصدد تسريبات «نيويورك تايمز» لضابط مزعوم في جهاز الأمن يملي على
مقدمي برامج وصحافي وممثلة معروفة بالرسالة التي ينبغي أن يشيعوها، باختصار القبول
باعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل.
لن
أناقش هنا محتوى هذا الموضوع كثيرا ويكفي أن أقرر أنني، وإن كنت أشك بشدة في كونه
ضابطا بالفعل، إلا أن رد المخاطبين لم يدهشني قط، ولم يزد سوى من نفوري واستهجاني
من تلك النماذج، الشوائب العالقة على جسد نظام منحط ومجتمع مهترئ.
المهم
في الموضوع بالنسبة لي هو ذلك الهوس بالعالم وصورتنا أمامه، اللذين عبّر عنهما
الكاتب وصدّر بهما مقاله في جريدة في سياق التسريبات ذاك. دائما وأبدا حاضرون في
أذهاننا، نتطلع إلى صورتنا ونقيس نجاحنا في مراياهم. ولعل المثال الأقرب الذي
يحضرني هنا هو حادثة قتل السياح المكسيكيين في الصحراء الغربية.
لم
تكن المشكلة آنذاك فيما كشفته الكارثة من سوء الاتصال والتنظيم بين قوات الأمن
وبعضها بعضا ولا في تلك الغلظة والعنف الغشوم والأخرق، ولا في انعدام الكفاءة
والدقة في التنفيذ، إلى آخره من معاني الترهل واستسهال التدمير والفشل في محاربة
الإرهاب، إنما كانت في تأثيرها على السياحة وعلاقتنا بالمكسيك وصورة مصر أمام
العالم.
لو
أن الضحايا كانوا مصريين لما اكترث المسؤولون ولا حركوا ساكنا، اللهم خلا
التصريحات الإعلامية الجوفاء، والأمثلة أكثر من أن تحصى أو تحصر. بيد أن ذلك
الاهتمام لم يزل يثير فضولي وبعض الأسئلة. أولا: من يقصد ( أو يقصدون ) بالعالم
(مع ملاحظة أن العالم يُختزل عند الكثيرين في الغرب تحديدا)؟ أهم المواطنون أم الحكومات؟
في
ما يخص المواطنين الأجانب، فليسترح القلقون المهتمون بصورتنا، فبالنسبة لهم مصر
تعني الأهرامات والفراعنة وما خلفوا من آثار يزورونها والشواطئ المشمسة؛ ربما
توقفوا لدى حدث ثورة يناير المبهر وصفقوا، وأبدى بعضهم إعجابه، إلا أن تلك الصفحة
لم تلبث أن طُويت بما أعقبها من انقلاب وبحر من الدماء غرقت فيه المنطقة جراء
مقاومة الأنظمة الرحيل. ثم احتل الإرهاب صدارة المشهد.
أما
الأنظمة والحكومات، فليطمئن الكاتب والجميع، فهم لا أوهام لديهم، فالله والقوى
العالمية والإقليمية أعلم بالحال، وهو لا يشرف مطلقا. هم يعلمون مدى التردي الذي
لحق بمصر وشاهدوها تتنازل (بالأدق تبيع) جزيرتين فائقتي القيمة الاستراتيجية
للمملكة السعودية؛ كثيرة هي التصريحات على أعلى المستويات في الغرب، التي تؤكد أن
دور مصر تراجع على كل الأصعدة، وبالتالي ينبغي عدم تصور أن اختيار التعامل مع
السيسي والاعتراف به أكثر من مجرد واقعية سياسية وإدراك لمدى ضعف وتشرذم القوى
المدنية (عدا جماعة الإخوان المسلمين)، أيا كانت الأسباب، ما لا يتسع المجال
للتطرق إليه هنا.
صورة
أخرى غائبة عن ساحة الجدل والسجال: صورة الذات، صورتنا أمام أنفسنا، وقد جرحت هذه
جرحا غائرا وعميقا بما تكشف من فساد وتهالك وترهل وانعدام كفاءة تنخر جميعا هيكل
الدولة والنظام الذي لم ينِ يعتمد على أجهزة الأمن، لملء الفراغات ورسم السياسات.
لوهلة، مع نجم يناير، بلغ الاعتداد بالنفس حالق السماء، وشعر المصريون بالفخر أمام
العالم المنبهر بإنجاز كهذا، إلا أن ذلك سرعان ما أخلى مكانه للشكوك والمرارة إزاء
الفوضى والأزمات المتتالية (المفتعل أكثرها) وأخيرا وليس آخرا الإرهاب وانعدام
الكفاءة البين في مواجهته. لقد تضعضعت تلك الثقة وحالة الرضا التي عاش كثير من
البسطاء هانئين بها.
من
الملاحظ هنا أيضا أن جزءا مهما من الرضا عن النفس في حال الثورة وقبلها كان ينبع
من تصور عن صورتنا أمام العالم ومكانتنا.
للأسف،
ما فتئ مسار الانكسارات عقب يناير بتفاصيله وتعقيداته يقنعني بأن كثيرا من مشاكلنا
يجد تفسيره في كتب علم النفس والسيكولوجيا الاجتماعية، فعقود الاستبداد شوهت
نفوسنا وخلفت وراءها كما مدهشا من الغضب والانسحاق. نحن بالفعل مرضى بالغرب، إما
نود أن نرى نظرة إعجاب وتقدير وإما نلقي باللائمة على المؤامرات (وهي موجودة بكل
تأكيد ولكنها ليست السبب الوحيد ولا الرئيسي) ونلوذ بالسباب والتظاهر بأننا لا
نأبه بالغرب على نمط يتمنعن وهن راغبات.
آن
لنا أن ننسى الغرب وصورتنا أمامه، كما آن لنا أن نلتفت إلى أنفسنا، إلى مشاكلنا
الحقيقية. لن يرضى عنا الغرب مهما فعلنا، وهو لا يهم أولا وأخيرا. وحده الإنسان في
بلداننا يهم وإليه، إلى حقوقه وحريته وكرامته وحياته الكريمة ينبغي أن تتوجه
الأنظار، و كل ما عدا ذلك فلا قيمة له.
أفيقوا
يرحمكم الله.
القدس العربي