من حق التونسيين، إن لم يكن من واجبهم، أن يسألوا: إلى أين تتجه
قاطرة ثورتهم بعد سبع سنوات على رحيل بن علي؟
كما
أن من حقهم تقييم مسار تجربتهم خلال السنوات الماضية، وتحديد مواطن الخلل والوهن
من المكاسب والمنجزات، في ظل هذه المطلبية الاجتماعية التي تسلل من خلالها شبح
الفوضى والفوضويين في الأيام الأخيرة.
هذه
أسئلة تحتاج إلى إجابات على قدر من الموضوعية، بعيدا عن الاعتذارية والديماغوجية،
باتجاه الحلول ومعالجة الإخلال.
من
الواضح أن القاطرة التونسية تمكنت من التقدم، والحفاظ على توازنها، في ظل عواصف
إقليمية عاتية عصفت بثورات الربيع العربي، فأعادت إليها شبح الحكم العسكري البائس،
كما حصل في مصر، وألقتها في أتون الاقتتال الأهلي والفوضى الشاملة، كما هو الحال
في سوريا وليبيا واليمن وغيرها.
تمكن
التونسيون من سن دستور حظي بإجماع واسع بين مختلف قواهم وثبت المكاسب السياسية
والحقوقية للثورة.
كما
نجحوا في ترسيخ مبدأ التداول السلمي على السلطة بإجراء انتخابين تشريعيين وآخر
رئاسي توفرا على قدر كبير من الشفافية، فضلا عن النجاح في بناء مؤسسات دستورية
منتخبة، مثل هيئة مستقلة تشرف على الانتخابات، وأخرى للحقيقة والعدالة، ومجلس أعلى
للقضاء وغيرها، مما يعني تفتيت مركز التسلط ووضع آليات لتوزيع السلطة.
هذه
منجزات سياسية مهمة وملموسة لا يملك أحد التهوين من شأنها، إلا أنها تبقى عديمة
الجدوى إذا لم تستكمل بالحلقة المتعلقة بالجانب الاقتصادي والتنموي الذي يمس
الحياة اليومية للمواطنين.
وثمة خشية حقيقية بأن تؤتى التجربة في مقتل وأن يتم جرف المنجز
السياسي في حد ذاته إن لم تتقدم الحكومة بجدية في معالجة الأزمة الاجتماعية.
لا
أحد يمتلك الحلول السريعة والمعجزة لمشاكل عويصة تراكمت لعقود طويلة تتعلق
بالخيارات التنموية والتفاوت الجهوي والاجتماعي، ولكن يجب عدم التذرع بهذه الآفات
المزمنة للهروب من الشروع الحقيقي في معالجة الأزمة.
أخذت
الثورة التونسية عنوانا مزدوجا، وكان شعاراها الرئيسيان الحرية والكرامة. فقد
انتفضت الفئات المفقرة، سواء في أعماق تونس أو في العاصمة والساحل، ضد التهميش
والبطالة ومرارة الهوان أو "الحقرة" بلهجة أهل تونس.
ولكنها
اكتشفت في الطريق الترابط الوثيق بين المطلبية الاجتماعية والبعد السياسي: بالظلم
والفساد والدكتاتورية، فتحول الشعار إلى الشعب يريد إسقاط النظام".
وهكذا،
اكتسبت الثورة طابعا وطنيا أفقيا بانتقالها من مدن الوسط صوب مختلف جهات ومدن
البلاد، كما أخذت بعدا سياسيا جليا، وإن لم تكن لها قيادات حزبية واضحة.
ما
زاد في تعقيد الوضع التونسي هو ارتفاع سقف الطموحات والتطلعات عند الجمهور، وخصوصا
بين قطاعات الشباب، تناسبا مع اتساع التعليم، ثم ارتفاع منسوب التسيس العام بعد
الثورة خصوصا.
ورغم
أن الصعوبات التي تمر بها تونس تظل مفهومة بمنظار قوانين التحولات السياسية، إلا
أن هذه التفسيرات تصلح للخبراء والجامعيين، ولكنها لا تسترعي اهتمام الشعب الذي
تستغرقه مشاق الحياة اليومية وعسرة العيش أكثر مما تشغله نظريات وتفسيرات المثقفين.
لقد
انغمست النخبة السياسية على امتداد السنوات الماضية في ورشات العمل السياسي، واستغرقت
في صراعاتها داخل البرلمان وخارجه، وإن كان يحسب للطبقة السياسية التونسية
عقلانيتها نسبيا وقدرتها على التخفيف من حدة الصراع السياسي والأيديولوجي، من خلال
عقد تسويات وتوافقات في ظروف قاسية كانت كفيلة بالزج بالبلاد نحو مصير مشابه لباقي
بلدان الربيع العربي، وهو ما كانت تدفع باتجاهه قوى في الداخل والخارج.
إلا
أن هذا الوجه الإيجابي للنخبة التونسية ينبغي ألّا يحجب عنا جانبين اثنين؛ أولهما
وجود مجموعات سياسية قليلة العدد كثيرة الجلبة، مردت على الاستثمار في الصراعات
السياسية، تحركها أحقاد أيديولوجية دفينة ونزعات استئصالية مريضة، سواء من الطيف
اليساري أو من بعض أجنحة النظام القديم.
إذ
تخوض هذه المجموعات معركة صفرية ضد من تصر على اعتبارهم أعداء ألدّاء لها، وتحديدا
النهضة، وتجعل هويتها ووجودها قرينيْ مصارعة النهضة وإخراجها من الساحة السياسية
برمتها.
هي
لا ترى مكانا لخصومها هؤلاء غير المشانق والزنازين والمنافي، وليست المطلبية
الاجتماعية التي ركبتها إلا مطية لتصفية حساباتها مع منظومة ما بعد الثورة التي
تعدها كارثية، لأنها أفرزت خصما ترفض التعايش معه أو منافسته سلميا.
أما
الجانب الثاني، فيتعلق بالإسراف في إطلاق الوعود خلال الحملة الانتخابية سنة 2014
في مواجهة الترويكا الحاكمة وقتها، بعد الاستماتة في شيطنتها، والتبشير بحلول
الخير العميم وتهاطل الاستثمارات والأموال، والتنعم برغد العيش، بمجرد خروج النهضة
أو إخراجها وشركاءها من الحكم.
ولكن
تبين أن الأمور أكثر تعقيدا من هذه الوعود الخلابة التي سرعان ما تبخرت وخلفت
وراءها مرارة أعمق، خصوصا بين قطاعات الشباب.
هناك
استراتيجيتان تتصارعان اليوم على عقل وقلب تونس بعد الثورة، واحدة اختارت الاندراج
في الدولة ومراكمة البناء السياسي والاقتصادي، رغم كل الصعوبات والهزات، استنادا
إلى تقدير مفاده أن ما تحتاجه البلاد هو مشروع إصلاحي اقتصادي جاد، بعد قطعها
أشواطا باتجاه معالجة معضلة الحكم الفردي المستبد.
وأخرى
فوضوية تنتهجها بعض القوى اليسارية المراهنة على استغلال الصعوبات التنموية لهز
النظام وإسقاطه، في تقاطع مع أجندة إقليمية، خليجية بالأخص، تتشوف للتخلص من آخر
حلقات الثورات العربية.
بعض
هذه القوى معادية للثورات العربية أصلا، وبعضها ذهب للقتال جنبا إلى جنب مع قوات
الأسد في سوريا، وهي ترى في انقلاب السيسي نموذجا ناجحا يتوجب الاقتداء به. هذه
التيارات تحولت بالأمر الواقع إلى قوى يمينية من خلال انخراطها ضمن أجندات
انقلابية إقليمية.
السخط
والقلق وخيبة الأمل معطيات موجودة وملموسة في تونس وليست مفتعلة. إلا أن الوجه
الآخر من المشهد يحيلنا إلى محاولة للاستثمار في هذا التذمر ودفعه باتجاه الفوضى
والانقضاض على الدولة، في إطار مؤامرة حقيقية تقودها قوى يسراوية معززة بمخطط
إقليمي لتخريب التجربة التونسية وإنهاكها.
رغم
أنه لا يمكن تفسير كل شيء بالمؤامرات والدسائس الخارجية، إلا أنه من السذاجة بمكان
إنكار وجود استراتيجيا إقليمية تقودها بعض دول الخليج تعمل جاهدة على إطفاء جذوة
التغيير التي انطلقت في تونس، .وأمامنا كم من الوثائق والتسريبات التي تبين وجود
مثل هذا المخطط الذي يشتغل على الأرض بقوة المال والإعلام والتحريض والتخريب.
طبعا
لا يكفي في مواجهة الأزمة الحديث عن المؤامرات الخارجية، بل الأهم من كل ذلك العمل
الجاد لمعالجة الصعوبات الاقتصادية، والارتقاء بتونس، وفتح منافذ الأمل أمام
شبابها المتعلم والواعد، ثم مواجهة هذا المخطط بقدر كبير من الوعي والعمل المثابر،
حتى تقف التجربة التونسية على رجليها، وتحافظ على شعلة التغيير والأمل متقدة في
نفوس الشباب العربي اليائس المقهور ببطش الدكتاتوريات.
والحقيقة
أن الشعب التونسي، رغم ضيقه من الوضع، إلا أنه تمكن بحسه السياسي السليم من إحباط
المكائد التي دبرت له بليل، حلقة بعد أخرى.
نعم،
هو يحتج على الغلاء، ويطالب بالارتقاء بالوضع المعيشي، وتحسين ظروف الحياة، وتوفير
الشغل، ولكنه لا يريد أن يفرط في مكتسب الحرية الذي انتزعه بمشقة بعد عقود من
الاستبداد. التونسيون يريدون إصلاح أوضاعهم ضمن خط ثورتهم، ولا يقبلون الانقلاب
عليها، كما تخطط لذلك القوى الفوضوية اليسراوية المتحالفة مع بعض دول الإقليم.
وكان
الله في عون تونس وأهلها الطيبين الصامدين.