ما يزال العقل العربي حتى اليوم، قاصرا عن اعتماد التفكير المنطقي في الأسباب التي تقود إلى النتائج، وأكثر قصورا عن اعتماد الفكر والمنطق في التحليل العلمي، بيد أن هذا العجز ينطلق في الأساس في مبدأ الانحياز. منذ القدم انحاز المثقف العربي إلى السلطة باعتبارها "حبل نجاة" له، أو مصدر منفعة يمكن إهماله، لذلك تعامل بفوقية وأبوية مع الجمهور.
في الحلقة الأخيرة من برنامج "لعبة الأمم" للإعلامي اللامع سامي كليب على قناة "الميادين" الفضائية حول كلف الربيع العربي، تبدى بوضوح عقم العقل العربي الذي ما يزال يعيش في قوقعة المقولات الببغاوية التي ترى في مجمل الأحداث التي مرت بالعالم العربي خلال السنوات السبع الأخيرة مجرد مؤامرة صاغتها الإمبريالية الغربية، وأوقعتنا بها من خلال مؤسساتها الذكية؛ المعلوماتية والبحثية والتمويلية!
الحلقة التي شارك فيها الزميل محمد أبو رمان إلى جانب ثلاثة ضيوف آخرين من لبنان وكندا، إضافة إلى الإعلامي كليب، ناقشت كتبا ودراسات للضيوف، وباستثناء أبو رمان الذي جاء كتابه ومداخلاته في خانة الرصد ودراسة الظاهرة السلفية وتمظهراتها وتحولاتها المجتمعية، كانت مداخلات الآخرين صادمة في الوصول إلى نتائج قطعية لا يأتيها الباطل أبدا!
الاتجاه العام للحلقة يخلص إلى أن "الربيع العربي" مجرد مؤامرة تم التخطيط لها بعناية وتروّ منذ بدايات الألفية الجديدة، وأن الإمبريالية الغربية والصهيونية وظّفت جهودا كبيرة وأموالا طائلة من أجل الوصول إلى الفوضى التي نعيشها اليوم. في هذه الخلاصة، يسقط "الباحثون" من الحسبان الخراب الذي تعيشه الدول العربية منذ تأسيسها، ووصول العديد من الدول والكيانات إلى مرحلة الشيخوخة والفشل في ظل غياب الحرية والديمقراطية والعدالة والاجتماعية، وفي ظل قمع للحريات الفردية ووأد الأحزاب والعمل الشبابي، وازدياد البطالة والفقر، والتأسيس لطبقات متنفعة من الأنظمة وشريكة لها في الحكم والمصالح.
جميع هذه الحقائق على الأرض يتم التغاضي عنها لمصلحة تنظيرات جوفاء تبرئ الأنظمة من أي مسؤولية تجاه ما حدث، وأيضا تتغاضى عن قدرة الجماهير على أخذ زمام المبادرة في الانتفاض ومحاولة تغيير الأمر الواقع. وهنا يكمن الانحياز واضحا حين نحيل كل شيء إلى مؤامرة، بما يعني أننا لا نرى غضاضة في حكم الأنظمة الديكتاتورية، ولا في عبثها السياسي على مدار عقود.
الأمر الآخر الذي تطرقت له الحلقة، كان موضوع الإعلام العربي، وتمت الإشارة إلى دور فضائيتي "الجزيرة" و"العربية" في ما يمكن تسميته "صب الزيت على النار". قد نفهم دور هاتين القناتين من خلال الانتقائية التي تمارسان فيها عملهما الإعلامي، ووضع أولويات في تغطياتهما. لكن، إذا دققنا سنجد أن هذه الانتقائية نفسها تحكم عمل "الميادين" التي طلّ الضيوف من على شاشتها، فمشاهدة نشرتي أخبار فيها سوف يقودنا إلى معرفة أولويات هذه القناة وانتقائيتها، وسنرى الساحات العربية التي تركز عليها، والساحات الأخرى التي تحاول "تبييض صفحتها" والأخبار التي تحاول القفز عنها.
كثير من الآراء التي طرحت خلال الحلقة تستخف بالعقل، وتقترح أسبابا تبرئ الأنظمة من التسبب في حالة الانغلاق التامة التي أدت بالتالي إلى خروج الجماهير إلى الشوارع. الأمر الآخر، هو أن التكلفة التي أظهرتها الحلقة، هي، في معظمها، وكما قال الزميل أبو رمان، جاءت من الثورة المضادة ومعاندة أحلام الجماهير، ومحاولة إبقاء الأمور على ما هي عليه منعا لأي تغيير في البلاد العربية.
لا يمكن إسقاط نظرية المؤامرة بالكامل عما نعيشه اليوم من عبث وفوضى. لكن، أيضا، لا يمكننا الاستخفاف بالجماهير العربية ومحاولات إلصاق صفات الغباء والعمالة والتبعية بها. إن كان لا بد من مقولات نواجه بها الحالة، فلا بد أن تتوفر من خلال دراسات وأبحاث على الأرض، لا من باب التنظير الأعمى الذي يصب في مصلحة أنظمة عفا عليها الزمن.
(الغد الأردنية)