شاع تعبير “سوريا
المفيدة” لوصف النصف الغربي ذي الإطلالة البحرية والكثيفة بالمدن والسكان من هذا
البلد المنكوب. ومن خصائص هذا القسم أيضاً وقوع أكبر المدن السورية وأكثرها أهمية
في ميادين الصناعة والتجارة على خط حلب ـ دمشق، إضافة إلى تركيبة سكانية أكثر
قابلية لاستمرار نظام الكيماوي في حكمها، بعد “تطهيرها” من الطبقة المتمردة فيها،
قتلاً وتهجيراً، على طريق الوصول إلى مجتمع “متجانس” إلى حد كبير كما عبر رأس
النظام في مناسبتين.
وقد ركزت قوة الاحتلال
الروسي جهودها التدميرية على هذا القسم، مدفوعةً بروائز عدة، منها الشغف الروسي
القديم بالوصول إلى “المياه الدافئة” على مأثور السردية الاستعمارية المتوارثة،
وهي تتمثل، هنا، في شاطئ المتوسط الذي أقامت فيه روسيا بوتين قاعدتين عسكريتين،
جوية وبحرية، في اللاذقية وطرطوس، تم تأمين بقائهما تحت السيادة الروسية لخمسين
عاماً قابلة للتجديد التلقائي، في معاهدة مع النظام الكيماوي، ما لم يطلب أحد
طرفيها إنهاء هذا التلزيم.
ومنها النظرة الروسية
التقليدية إلى “المكونات” وطريقة التعامل معها في سبيل ترسيخ حكم عميلها في دمشق.
وقد رأينا نماذج من التعبير عن هذه النظرة في بعض تصريحات دبلوماسيين وعسكريين
روس، أفصحت عن رؤية تفاضلية لتلك المكونات، يحتمل أن يقوم عليها نظام الحكم
المقبول روسياً في سوريا ما بعد الحرب، وقد يكون “مؤتمر الشعوب السورية” المنوي
عقده في منتجع سوتشي ميدان اختبارها الأول، إذا قيض له الانعقاد. فمن هذا المنظور “الديموغرافي”
تأتي أهمية “سوريا المفيدة” بالنسبة للمحتل الروسي.
ومنها أيضاً الرهاب
الروسي من الأراضي الشاسعة، شرق سوريا وشمالها الشرقي، التي تتطلب السيطرة عليها
موارد وجهود مضاعفة لا تحتملها الإمكانات المحدودة لروسيا، ولا السباق مع الزمن
لتحقيق إنجاز عسكري وتتويجه بإنجاز سياسي يطمح بوتين أن يشكل، مع عوامل أخرى،
أساساً لعلاقة ندية مع الولايات المتحدة، في إطار حنينه إلى عالم الثنائية القطبية
في عصر الحرب الباردة. فإذا أضفنا السيطرة الأمريكية على منطقة شرقي نهر الفرات،
بوصفها حاجزاً لا يمكن تجاوزه أمام الطموح الروسي، اكتملت عوامل اكتفاء موسكو بما
اعتقدت أنه القسم المفيد من سوريا.
لكن الإشارات
المتواترة حول نوايا واشنطن بإقامة مديدة شرقي نهر الفرات، أبرزت مزايا هذا القسم “غير
المفيد” الذي اكتسب قيمة مضافة استراتيجية، ليس فقط لأنه خزان الثروتين النفطية
والزراعية في سوريا، بل أساساً لأنه يوفر لواشنطن منصة سيطرة وتهديد للدول
المجاورة (سوريا الروسية، تركيا، العراق ومن ورائها إيران) وللتحكم عن قرب
بتفاعلات الإقليم المضطرب. أضف إلى ذلك أن الأمريكيين ضمنوا حليفاً محلياً موثوقاً
يمكن إرساء النفوذ المستدام من على أكتافه. وهذا ما حول سوريا غير المفيدة، إلى
مفيدة أكثر من سوريا الروسية. يدور الكلام، هذه الأيام، عن توقع وصول “دبلوماسيين”
أمريكيين إلى مناطق سيطرة “قوات سوريا الديموقراطية” لتعزيز القواعد العسكرية
الموجودة بزخم سياسي ـ دبلوماسي، في إشارة إلى نوايا تقاسم الأرض السورية بين
الأمريكيين والروس، بما لا يبقي شيئاً لصغار اللاعبين كتركيا وإيران الغارقتين حتى
آذانهما في مشكلاتهما الداخلية.
أما إسرائيل فحصتها من
التركة الأسدية محفوظة بضمانة الأمريكيين والروس معاً، وإن كنا لا نعرف حجمها إلى
الآن.
نشهد الآن اضطراب
الشراكة الثلاثية الروسية ـ الإيرانية ـ التركية في الصراع السوري. فأردوغان يصرح
من تونس واصفاً رأس النظام الكيماوي بالإرهابي الذي لا يمكن أن يظهر أي حل سياسي
بوجوده، في حين تتقدم ميليشيات هذا الأخير في محافظة إدلب، من الجنوب، بدعم من
الطيران الحربي الروسي. ولا تبدو روسيا في وارد استبعاد حزب الاتحاد الديمقراطي من
“وليمة سوتشي” بناء على إصرار أنقرة، على رغم وصف بشار الكيماوي له بالخيانة.
بالمقابل تتواتر أخبار حول استئناف (أو استمرار) تنسيق أنقرة مع جبهة تحرير الشام
(النصرة سابقاً) في إدلب، في حصار عفرين من جهة، وفي مواجهة ميليشيات بشار
الكيماوي ورديفها الإيراني من جهة ثانية.
هذه التطورات تنبئ
بفشل مبكر لمشروع بوتين بصدد جمع 1500 سوري متمسكين ببقاء بشار في السلطة، في
مدينة سوتشي، بسبب التباعد المستجد بين موسكو وأنقرة. أما الشريك الثالث في مسار
آستانة ـ سوتشي، إيران، فهو يمر بأخطر تحدٍ داخلي منذ ثورة الحركة الخضراء في ربيع
2009، متمثلاً في مظاهرات شعبية من بين شعاراتها المطالبة بانسحاب إيران من الساحات
المضطربة في لبنان وسوريا واليمن. ولم يحل التحالف التكتيكي الإيراني ـ التركي، في
مواجهة سعي كرد العراق إلى الاستقلال، خريف العام الماضي، دون عودة الصراع الخفي
بينهما في سوريا في الآونة الأخيرة.
بعيداً عن تقلبات
أطراف الصراع على الساحة السورية، وقيام التحالفات وتفككها، والتطورات الميدانية
التي لا تخلو من مفاجآت، كالهجوم “الغامض” على قاعدة حميميم وتدمير طائرات روسية
على أرض المطار قبل أيام.. وبعيداً عن جنيف وديمستورا وآستانة وسوتشي.. ترتسم لوحة
سوريا اليوم موزعة بين مفيدة ومفيدة أكثر، كلما تقدمت عملية إخلائها من سكانها.
فقد حكم على هؤلاء، فيما يبدو على مدى سبع سنوات، أنهم وحدهم غير المفيدين في نظر
أحد.
(القدس العربي)