ليس قليلا أن يتّهم المرشد الإيراني «عملاء الخارج» بتحريك موجة الاحتجاجات في بلاده، من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها... وافتراض كبر هذا الاستنتاج مردّه إلى كون الاتّهام في ذاته، دلالة على المآل الذي وصلت إليه «الثورة» بعد أربعة عقود على اندلاعها.
والتوضيح الواجب، يفيد بأنّه إذا كان لهؤلاء «العملاء» للخارج تلك القدرة على تحريك الناس بهذه الكثافة والمتابعة والدأب والجذرية، فذلك يعني أنّ نظام إيران في المحصّلة لم يُوصل الإيرانيين إلى أي مكان موعود: لا على المستوى الداخلي، على ما تُبيِّن شعارات المتظاهرين والأرقام الدالّة إلى نسبة العوز والفقر والبطالة وضمور التنمية في بعض أساسيّاتها. ولا على المستوى «القومي» العام المزنّر بالشحن المذهبي والباحث خارج الحدود عن أمجاد تليدة ضائعة. أو حتى من داخل الحدود من خلال ادعاء تصنيع عسكري هو أقرب إلى النسخ منه إلى الإبداع. ولا من خلال السعي الملجوم إلى امتلاك القنبلة الإفنائية. ولا من خلال مراكمة الأزمات المتفجّرة مع دول قريبة وبعيدة وقوية ومتواضعة وغنيّة وأقل غنى، على حدّ سواء.
كان يمكن أن يؤخذ، أو يُفهم إتّهام الخارج بتحريك الدواخل الإيرانية لو جاء من قبل مستويات أقل وزنا من «المرشد» نفسه، فتلك خاصية دفاعية وتلقائية وطبيعية من أهل النظام وكبار المؤدلجين فيه ومن قيادة الحرس «الثوري» تحديدا، لكن أن يخرج الاتّهام من «القائد» الأول للجمهورية فذلك عامل إدانة ذاتية حاذرَهُ (مثلا وتحديدا) الرئيس الشيخ حسن روحاني عندما ترك «هامشا» داخليا واضحا في التحرك المتسارع والمتدحرج ورأى، في ما رأى، «بعض الحق» للمتظاهرين وشعاراتهم!
ما يجري ليس انقلابا عسكريا من قبَل مجموعة أشخاص مؤثّرين يمكن أن يكونوا مربوطين بالخارج.. وليس تحركا لفئة حزبية منظّمة ومقفلة ويمكن أيضا أن تكون مربوطة بـ«تآمر» خارجي، بل هو على محدودية الأعداد المشاركة فيه حتى الآن، أمر واسع النطاق جغرافيا، وشديد الفرادة «طبقيا» إن صحّ التوصيف. بحيث أنّ «المستضعَفين» الذين انطلقت «الثورة» باسمهم ولأجلهم قبل أربعين عاما، هم الذين يتصدّرون اليوم صفوف «الثورة المضادة»! وهم الذين يُظهرون أشدّ علامات التمرّد والرفض لكل مظاهر النظام ورموزه وبطريقة صادِمة حتى لأخصام إيران وضحاياها الكثر في الخارج!
قد تنطفئ هذه الحركة برمّتها خلال أيام، وقد تتصاعد وتتّسع وتنتشر أكثر فأكثر، لكن في الحالتين هناك ما يكفي من دلالات على أنّها زبدة تراكمات فشل نظام «الجمهورية الإسلامية» في تقديم البديل الناجح عن نظام الشاه وطقوسه وسياساته ومغالاته في إيثار الشّكل «الإمبراطوري» على حساب مضمون عالم ثالثي بامتياز.. ثمّ فيها دلالات أكثر على عقم ادّعاءات النفوذ والاقتدار في الخارج في وقت ينطوي الداخل على كل ذلك البؤس والخواء والهشاشة والخطورة!
اتّهام الخارج بعوارض الداخل أوّل مؤشّرات الدمار الذاتي وأخطرها.. وعند بشار الأسد الخبر اليقين! تماما مثل محاولة تعويض الفشل الداخلي بنفوذ خارجي.. وفي اضمحلال «الاتحاد السوفياتي» أمثولة كافية وصالحة للاستنساخ!
المستقبل اللبنانية