تعيش العربية السعودية أحداثا تتجاوز المفاهيم السياسية، لتدخل في الخيال السياسي، أو ما يصطلح عليه بالمسلسلات السياسية القريبة من المسلسلات التلفزيونية لبعض دول أمريكا اللاتينية، حيث تمتزج السياسية بالخداع والذكاء والشماتة.
المسلسل السياسي- التلفزيوني السعودي بدأ الصيف الماضي من دون لفت انتباه المراقبين، وانطلق بالخطوة الخطيرة التي أقدم عليها ولي ولي العهد وقتها محمد بن سلمان باعتقال واحتجاز ولي العهد محمد بن نايف، المرشح الأوفر لتولي عرش المملكة السعودية بعد الملك سلمان بن عبد العزيز. اتهم محمد بن سلمان نايف بتناول المخدرات والتبذير وعدم القيام بالدور المناط به، وطرح الموضوع في هيئة البيعة لتبرير تنحية نايف، ووجد من الأمراء من يصفق له بدون تحفظ. وبعد احتجاز نايف، قدم تلك المسرحية الشهيرة، حيث يقبل رجل الأول وكأنه تنازل طوعا عن العرش.
لم ينتبه الأمراء إلى مخطط ولي العهد، بل انخرط بعضهم في مشروعه على أمل الظفر بمنصب رفيع المستوى، مثل حاكم منطقة من مناطق البلاد، وانخرط آخرون لأنهم كانوا يرون في محمد بن نايف الحاجز الصعب تجاوزه لتولي الملك، وكانوا يرون في محمد بن سلمان الشاب الطائش الذي سيرتكب أخطاء ستبعده من سباق العرش. وكانت المفاجأة أن الذين تبنوا واحدا من السيناريوهين وجدوا أنفسهم ضيوفا في فندق ريتز كارلتون بتهم الفساد المالي، ويشكل الأمر سابقة لأنه سجن حقيقي من خمسة نجوم يتجاوز في الرفاهية سجون السويد والنرويج والدنمرك التي يطلق عليها «سجون خمسة نجوم».
ذهب الكثير من الإعلاميين والمحللين إلى مقارنة ما حدث في السعودية بداية نوفمبر الماضي، باعتقال الأمراء، بليلة السكاكين في ألمانيا التي نفذها النازيون ضد اليسار، أما التاريخ العربي- الإسلامي فيسعفنا بتقديم مثال بارز وهو نكبة البرامكة على يد هارون الرشيد سنة 803، الذي قضى على نفوذهم المالي والسياسي، كما يسعفنا التاريخ المسيحي بمثال آخر سنة 1307 وهو اعتقال وقتل الملك فيلبي الرابع في فرنسا لفرسان الهيكل، لينهي مسيرتهم السياسية وتأثيرهم المالي القوي.
فجأة، غاب البرامكة كما غاب فرسان الهيكل، ولم يعد لهم من وجود سوى في كتب التاريخ، ويبدو أن محمد بن سلمان ينوي تكرار السيناريو عبر تأسيس ما يسمى بالمرحلة الرابعة للدولة السعودية، وفي الوقت ذاته، ينتقم لوالده سلمان الذي كان يحس دائما بنوع من الدونية أمام أشقائه الملوك الراحلين مثل، فهد وعبد الله أبناء عبد العزيز.
اعتقال محمد بن سلمان للأمراء هو نهاية لكل هؤلاء الأمراء، فالأمير متعب بن عبد الله المنافس القوي لمحمد بن سلمان ومسؤول الحرس الوطني لسنوات طويلة يغيب الآن نهائيا عن الساحة السياسية. وأنهى أميرا آخر وهو من أبرز أعضاء العائلة الملكية وأشهرهم في الخارج، الوليد بن طلال الذي شكل شوكة في حلق محمد بن سلمان، فقد كان الوليد بن طلال من المبادرين إلى المطالبة بحرية المرأة والانفتاح على العالم، وفي الوقت نفسه يطبق محمد بن سلمان أجندة الوليد، ولكن بعد تغييه في سجن ريتز كارلتون. لا يتحمل ولي العهد السعودي وجود الوليد ولقبه بأنه رجال الأعمال الأغنى بين رجال الأعمال العرب في العقود الأخيرة، الذي انتقل من الاستثمار في ما هو محلي إلى كبريات الشركات الدولية، مثل سيتي بانك وتويتر ويشترك في مشاريع تنموية مع كبار هذا العهد مثل بيل غيتس. ولهذا قرر سحبه من المعادلة السياسية – المالية، لكن الوليد يستمر في التحدي، ووفق الصحافة العربية والدولية، فقد طلب من المحققين الذين عينهم محمد بن سلمان إحالته إلى محاكمة علنية، ليبرهن على مصادر أمواله و»شفافية» استثماراته، التي توجد كلها في الخارج. ويعلم الجميع استحالة إجراء محاكمة علنية، لأن فتح أي ملف سيمتد أثره إلى باقي الملوك ومنهم الملك سلمان بن عبد العزيز، بل وولي العهد محمد بن سلمان نفسه صاحب أغلى لوحة وأغلى بيت وأغلى يخت في العالم بما يفوق المليار دولار، فمن أين له هذا؟
ويشكل الوليد بن طلال بدوره حلقة خاصة في نكبة البرامكة في السعودية، أو نكبة فرسان الهيكل، فالرجل يمتلك مشاريع إعلامية ضخمة، وشبكة عملاقة من العلاقات المالية والسياسية دوليا، ولكن لم يجد لحظة اعتقاله في فندق كارلتون ريتز أحدا يتضامن معه، لم يقف معه أصدقاؤه، ولم يتذكره أولئك الذين منحوه دكتوراه فخرية، وكل ما يهم الشركاء في مشاريع استثمارية هو حجم الخسارة المالية المترتبة على اعتقاله. بينما آزره قليلون لا يتعدون أصابع اليد الواحدة، وعلى رأسهم ابن خالته الأمير هشام ابن عم ملك المغرب الذي سطر رسالة ونشرها في تويتر معلنا التضامن الإنساني والعائلي معه في هذه المحنة، ويحيي فيه موقفه من التنصيص على محاكمة علنية حول ثروته واستثماراته.
ما يجري في السعودية هو مسلسل سياسي- تلفزيوني، بعيدا عن الاستعانة بالتاريخ قد يكون العنوان الأنسب هو «نكبة الأمراء» على وزن «نكبة البرامكة و»نكبة فرسان الهيكل».
القدس العربي