شهد لبنان كل أشكال التطورات السياسية والأمنية، وبرع المراقبون في قراءاتها
وتحليلها. لكن تاريخ لبنان الحديث لم يسجل سابقة كاستقالة سعد الحريري من رئاسة الحكومة،
ما جعلها لغزا يستعصي على الحل حتى للمقربين من دوائر صناعة القرار في لبنان؛ حيث إن
الرئيس الحريري نفسه كان قبل بضعة أيام يتغنى بإنجازات الحكومة التي تمكنت في غضون
سنة واحدة من إنجاز ما عجزت عنه الحكومات المتعاقبة منذ 12 عاما، ومنها إقرار الموازنة
العامة وإكمال التعيينات والتشكيلات العسكرية والدبلوماسية والقضائية.
فكيف انقلب الرجل على خطابه هذا وعلى نهجه الوسطي الذي يحظى بإجماع اللبنانيين..
أما بخصوص إيران وتدخلاتها في لبنان، فهذه ليست حالة طارئة ومستجدة، وكذلك الحال بالنسبة
لحزب الله، حيث إن الخلاف حول سلاحه مستمر منذ عقدين. إذا فما هو الجديد المستجد الذي
استدعى تقديم الاستقالة من الرياض بهذا الشكل المستفز للفريق اللبناني السيادي الذي
يدعو إلى استقلال القرار السياسي اللبناني عن جميع القوى؟
قد نحتاج لفك رموز هذا اللغز للعودة قليلا إلى الوراء. أي قبل ثلاثة أشهر،
حيث بدأ الحديث عن أن الحرب في سوريا على وشك أن تضع أوزارها، وبالتالي فان المحور
السوري الإيراني سيتغنى بانتصاراته وستتحول عودة مقاتلي حزب الله من سوريا إلى لبنان
هاجسا لدى المحور السعودي.
في تلك الفترة بدأت حركة نشطة على خط بيروت الرياض بشكل لافت، حيث توالت
الدعوات للقوى المسيحية في لبنان لزيارة السعودية ثم لصقور تيار المستقبل وشملت أيضا
عددا من رموز السنة الموالين لخط 8 آذار، وقد تزامن ذلك مع دخول الوزير السعودي سامر
السبهان على خط الساحة اللبنانية عبر تغريدات استفزازية تختلف عن النهج التوافقي الذي
يسير عليه آنذاك الرئيس سعد الحريري، ثم توالت التغريدات التصعيدية والتوسع بتوجيه
الدعوات إلى رموز الساحة المسيحية وكان آخرها توجيه دعوة للبطريرك الماروني لزيارة
المملكة.
الانفتاح السعودي المفاجئ على رموز الساحة المسيحية لفت المراقبين إلى
أمرين أولهما أن السعودية ترغب في تعرية حزب الله من الغطاء المسيحي، الذي يشكل له
حماية دولية.. وثانيهما التمهيد لتدبير أمر ما ينطوي على أبعاد خطيرة تعيدنا بالذاكرة
إلى الشرارة الأولى للحرب اللبنانية عام 75.
وقد ذهب بعض المراقبين إلى وصف تغريدات السبهان بأنها استعادة لدور الحاكم
العسكري للبنان في زمن الوصاية السورية غازي كنعان. مرجحين أن تكون المملكة قد فوضت
الملف اللبناني إلى السبهان الذي سيتحول في المستقبل إلى صاحب القرار في المسار اللبناني.
وتزامن ذلك مع رفع سقف العقوبات الأمريكية على حزب الله بصورة تتناقض
مع وجوده في الحكومة اللبنانية، حيث غرد السبهان مطالبا بإخراج وزراء حزب الله من الحكومة،
إلى جانب الحديث عن قرار مرتقب ستعلنه المحكمة الدولية ضد حزب الله بشأن اغتيال الرئيس
الشهيد رفيق الحريري.
من هنا يتضح أن استقالة الحريري تأتي في سياق نهج جديد قررته المملكة
والتمهيد لسيناريوهات قاتمة قادمة على لبنان. وهناك من المراقبين من يرى أن المرحلة
المقبلة هي مرحلة حروب القوة الفائضة وحروب المال الفائض. ويرى أحد خبراء السياسة أوجه
شبه بين السيناريو القادم على لبنان والمنطقة، وبين ما جرى مع الرئيس العراقي الراحل
صدام حسين، حيث خرج من الحرب الإيرانية بفائض قوة أدت إلى تورطه في اجتياح الكويت،
ومن بعدها بدأ التدمير الممنهج لقوة العراق، وصولا إلى اجتياح العراق.
كيف ستنفذ تلك السيناريوهات؟ وكيف سيتم القضاء على القوة الفائضة للأحزاب
والدول في المنطقة تمهيدا لإعلان النظام الإقليمي الجديد؟ سؤال برسم المستقبل.
الشرق القطرية