إذا كانت الأعمال تقيّم بنتائجها، وينبغي لها ذلك، يمكن القول إن الطريقة التي تعاملت بها قيادة إقليم كردستان مع تداعيات الاستفتاء الذي جرى، قد أدت إلى نتائج معاكسة تماماً لما أرادت الوصول إليه بواسطته. فبدلاً من تقوية يد أربيل في مفاوضاتها المحتملة مع بغداد، أدى الأمر إلى إضعافها، إن لم نقل وضع نهاية للمفاوضات قبل حدوثها، نهايةً هي لمصلحة الأمر الواقع الجديد الذي فرضته قوات حكومة بغداد والميليشيات الشيعية التابعة لإيران، من خلال فرض سيطرتها، بلا قتال، على المناطق الموصوفة بالمتنازع عليها.
أي أن أولى نتائج هزيمة كركوك هي تقليص مساحة الأراضي التي كانت قوات البيشمركة تسيطر عليها، وأهمها مدينة كركوك ومنشآتها النفطية التي بدون مواردها لا يمكن للكرد أن يحلموا بكيان مستقل. ومن المحتمل أن شهية بغداد (وإيران من ورائها) لن تقف عند حدود الثروة النفطية، بل هي تتطلع إلى السيطرة على معابر الإقليم الحدودية مع كل من تركيا وإيران، وما يعنيه ذلك من خنق الإقليم تماماً، وبغض نظر أمريكي ولامبالاة دولية.
النتيجة الثانية لهزيمة كركوك هي خسارة الحليف التركي، بصرف النظر عن وهنه واضطراب أحواله الراهنة وتوتر علاقاته مع الأمريكيين والأوروبيين. فقد كانت تركيا، على الدوام، هي النافذة الوحيدة المأمولة للإقليم على العالم، في محيط معادٍ (العراق وإيران وسوريا) سواء بقي الإقليم فيدرالياً داخل حدود العراق أو استقل بكيانه عنه. ومن هذا المنظور، فقد كان الإقليم شبه المستقل في أحسن حال، إذا قارناه بما آلت إليه أوضاعه بعد معركة كركوك.
هذا هو، على أي حال، الدرس الذي أراد خصوم استقلال كردستان تلقينه للكرد: (انظروا ما فعله بكم الاستفتاء الذي أصررتم على إجرائه!) كأننا أمام نسخة طبق الأصل عن المأساة السورية الفظيعة: (أهذه هي الحرية التي طالبتم بها؟) يقول لسان حال النظام الكيماوي، ومعه كل المجتمع الدولي، بعدما دمر النظام سوريا وهجر نصف سكانها وقتل نصف مليون منهم، مع مساهمة فعالة من المجتمع الدولي تراوحت بين غض النظر عن جرائمه، ومساعدته على استعادة سيطرته العسكرية وإعادة تأهيله سياسياً.
يمكن القول إذن، باستخلاص نتائج درسي سوريا وكردستان، إن شريعة الأقوياء في هذا العالم لا تتهاون مع إرادة الشعوب، سواء تم التعبير عنها بثورة سلمية أرغمت على التحول إلى مقاومة مسلحة (سوريا) أو باستفتاء ديمقراطي كحال شعب إقليم كردستان. الستاتيكو، في اقليمنا «الشرق أوسطي» على الأقل، وجد ليبقى، «إلى الأبد» كما يقول الشعار الأسدي الشهير. فإذا وجب إجراء تعديلات عليه، من حين لآخر ولدواع مختلفة، فهذا من شأن صانعي الستاتيكو أنفسهم، أي أصحاب القوة، وليس من شأن شعوب المنطقة. قد يختلف أصحاب القوة فيما بينهم على حجم التعديلات التي يجب إدخالها على النظام الإقليمي أو وجهتها، وفي هذه الحالة يقامر هؤلاء بدماء أهل المنطقة لتعديل موازين القوى، وصولاً إلى لحظة التوافق على خريطة نفوذ جديدة. أما أن يتشاطر لاعبون إقليميون، متوسطو القوة، للاستفادة من لحظة إعادة ترتيب الوضع الإقليمي، فهذا بدوره غير مسموح إلا في الحدود التي يرسمها الأقوياء.
النتيجة الثالثة لمعركة كركوك هي هذا الشقاق الكبير داخل الحركة السياسية في إقليم كردستان، وتداعياته المحتملة خارجه أيضاً، بين الحزب الديمقراطي الكردستاني ودائرة نفوذ العائلة الطالبانية داخل الاتحاد الوطني الكردستاني، على خلفية اتهام الأول للثاني بالخيانة لمصلحة إيران، بما قد يصل إلى استعادة الحرب بين القوتين كما جرت سابقاً في التسعينيات. حرب قد تشجع عليها إيران من جهة أولى، ورغبة مسعود بارزاني في التغطية على هشاشة وضعه السياسي بعد معركة كركوك من جهة ثانية. فإذا حدث المحظور فعلاً كان ذلك بمثابة رصاصة الرحمة، ليس فقط على حلم الدولة الكردية المستقلة، بل كذلك على الإقليم الفيدرالي شبه المستقل الذي كرسه الدستور العراقي.
النتيجة الرابعة المحتملة لهزيمة كركوك هي تقوية التيار الأوجالاني في مواجهة التيار البارزاني، سواء في العراق أو في تركيا وسوريا. وهو تيار أقرب ما يكون إلى العدمي بالنظر إلى براغماتية التنظيم المسلح القابل لتغيير مبادئه وتحالفاته وتموضعه كل 24 ساعة، وصولاً لغياب أي قضية يدافع عنها باستثناء قضية تحرير زعيمه الأسير عبد الله أوجالان. ويزداد الأمر سوءاً إذا نظرنا إلى المستقبل المحتمل للتحالف الأوجالاني ـ الأمريكي في سوريا، بعد انتهاء القيمة الاستعمالية للأول في أعقاب نهاية مسلسل داعش القريب في سوريا بعد العراق. هذا المستقبل المحتمل الذي قد يكون خذلان الحليف الأمريكي لبارزاني في معركة كركوك، تجربة يقاس عليها في سوريا أيضاً. أي أن ازدياد قوة التيار الأوجالاني في مواجهة التيار البارزاني يتوقف على أرضية هشة يمكن أن تميد بسهولة تحت أقدام الأول إذا قرر الأمريكي أن دوره في محاربة داعش انتهى، ليتخلص من عبء التحالف معه. عبء يكلفه توتراً في العلاقات مع حليفتها الأطلسية تركيا التي تزداد، بسبب ذلك، بعداً عن واشنطن وانضواءً تحت الجناح الروسي وتقارباً مع إيران.
حصيلة مأساوية لمعركة كركوك التي لم تحدث، وهي كذلك لأنها لم تحدث. هناك الكثير من الغموض حول ما جرى فعلاً وراء الأبواب المغلقة. وتبقى تساؤلات كثيرة معلقة في الفراغ، من نوع: هل كان قرار الاستفتاء خاطئاً من أساسه؟ أم كان شموله للمناطق المتنازع عليها هو مكمن الخطأ فيه؟ أم توقيت إجرائه الذي أصر عليه بارزاني؟ أم أن معركة كركوك التي تهرب الكرد من خوضها هي المسئولة عن كل التداعيات المأساوية اللاحقة؟ والسؤال الأكثر أهمية: ما العمل الآن لضبط الخسائر عند أدنى سقف ممكن؟
البداية غير مشجعة على التفاؤل: بيان قيادة الإقليم الذي أعلنت فيه «تجميدها» لنتائج الاستفتاء ودعت إلى إطلاق عملية تفاوض بلا شروط مع بغداد. إن الطريقة المثالية المجربة لتحويل هزيمة عسكرية في معركة لم تحدث، إلى هزيمة سياسية شاملة، هي تقديم تنازلات سياسية فيما لا يجب التنازل عنه. فالاستفتاء الذي جرى وأعلن شعب كردستان من خلاله توقه إلى الحرية والاستقلال، لم يعد ملكاً لقيادة الإقليم حتى تتلاعب به فتجمده على طريق إلغائه كما ستصر بغداد ومن ورائها طهران وأنقرة.
لم تحقق هزيمة حزيران 1967 أهدافها، وفقاً للرطانة البعثية الممجوجة، لأن «النظام التقدمي» في سوريا لم يسقط! كردستان ليست بحاجة إلى تكرار هذا «النصر» المشؤوم ببقاء طاقمه الحاكم في الحكم.
القدس العربي