لم تكن معركةُ الصحون المتطايرة التي طَبعت بداية أشغالَ المؤتمر السابع عشر لحزب الاستقلال المغربي (29 سبتمبر ـ 01 أكتوبر 2017) سوى سحابة صيف، إذ سرعان ما استرجع الجميع هدوءه، وتكاتف المؤتمرون من أجل دراسة بنود جدول الأعمال، وفي صدارتها تجديد هياكل الحزب، وانتخاب أمينه العام تحديداً. كان واضحاً أن أقدم حزب سياسي في المغرب (1944)، يجتاز مرحلة اضطرابات منذ انتخاب "حميد شباط" أمينا عاماً عام 2012، وأن تغييرات عميقة تخترق بناءه الداخلي وتوجهاته السياسية، وأن احترازات وتخوفات كثيرة، ما انفك يُعبَّرُ عنها من قبل القادة التاريخيين للحزب وقاعدة واسعة من المناضلين والأنصار، صبّت كلها في اتجاه تقوية الحزب من أجل استرجاع مكانته التنظيمية والسياسية.
تَعذر على المؤتمر انتخابَ أمينه العام في الموعد المحدد من قبل لجنته التحضيرية، لأسباب متعلقة ببطائق التصويت، وفي الجولة الثانية ليوم السبت سابع أكتوبر 2017 ، حسم المجلس الوطني، بوصفه برلمان الحزب، قراره لصالح تجديد من يقود مركبة الحزب، فجاء التصويت لافِتا لصالح حفيد علال الفاسي، والرئيس الحالي للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، ووزير المالية الأسبق "نزار بركة"، الذي لم تجاوز سنته الخمسين بقليل (1964)، و وفد إلى عالم السياسة من عائلة "آل الفاسي"، المتنفذة في النسيج الاقتصادي والسياسي والاجتماعي المغربي، ومن خلفيته الأكاديمية كباحث في علم الاقتصاد ومدرِّس لمعارفه. أما نتيجة التصويت فكانت كاسِحة لصالحه، حيث حصل على 924 صوت، مقابل 234 لمنافسه "حميد شباط"، وهي نتيجة مريحة يمكن قراءتها من زوايا متعددة. فمن جهة، ثمة تأييد كبير وواسع للأمين العام الجديد "نزار بركة"، وهو ما يعني أن هناك مباركة لفكرة التجديد والقطع مع ولاية الأمانة العامة السابقة (2012 ـ 2017)، بكل ما لها وما عليها. ومن جهة أخرى، تُقنع النتيجة بأن ثمة وعياً كبيرا ومتصاعداً بضرورة إرجاع الحزب إلى سكته الطبيعية، وإعادة ربطه بأصوله التاريخية والإيديولوجية والسياسية، كحزب يميني وسطي، متعاون مع السلطة، وليس متنازعا معها، مدافع ، ولو في الحدود الدنيا، عن القيم التي ناضل من أجلها المؤسسون، وفي مقدمتهم جد الأمين العام الجديد المرحوم " علال الفاسي".
لعل هذا يبدوَ طافحاً على السطح، وما يمكن لمتتبع الشأن الحزبي والسياسي المغربي استنتاجَه من تطور مسار حزب الاستقلال ونتائجِ مؤتمره السابع عشر الأخير. فهل يُعدُّ كافياً لفهم التجديد الحاصل في أمانة حزب الاستقلال؟، أم يتطلب الأمرُ البحثَ في ما هو أعمق من الظاهر، أي في ما تحت السطح؟.
من المعروف في عالم السياسة أن ليس الظاهر دائما هو الحاسِم في عملية الفهم، بل كثيرا ما يُضمر السياسيون ما لا يُظهرون، لأسباب تتعلق بطبيعة السياسة ذاتها، ونوعية القضايا التي يتولون التعاطي معها، وقد تكون الفجوةُ بين الظاهر والباطن أكثر اتساعاً وعمقاً في المجتمعات المركبة، كما هو حال المغرب. لذلك، تحكمت في عملية استبدال الأمين العام لحزب الاستقلال بأمين عام جديد، هو تحديدا " "نزار بركة" ، حفيد المؤسس التاريخي للحزب " علال الفاسي"، عدة متغيرات قد لا تبدو واضحة بما يكفي، وهي في الظن متغيرات ذات صلة بالقوى العميقة في الحزب، وبالنظام السياسي ومتطلبات السلطة. فمن زاوية الحزب، وتفاعلات القوى المتحكمة، بدا واضحا منذ انتخاب " حميد شباط" أمينا عاماً أن حزب الاستقلال دخل مداراً نوعياً مختلفا جذريا عن تاريخه وما راكم من ممارسات. وما أكد هذا التقدير ورسخه بالتدريج في وعي قاعدة واسعة من المناضلين الاستقلاليين، المواقف التي أقدمت عليها أمانة الحزب خلال مشاركتها في حكومة " العدالة والتنمية" الأولى، حين انسحب وزراؤها من الائتلاف، ومن ضمنهم الأمين العام المنتخب " نزار بركة"، وبعدها نزعة التشدد في خطاب الحزب تجاه السلطة، وحُيال بعض أحزاب الأغلبية، مروراً طبعاً بتصريحات "حميد شباط" في قضايا حساسة داخليا ودوليا..ففي أعقاب كل هذا تولد شعور عام لدى القادة التاريخيين للحزب وأنصارهم أن ثمة نزوعا للحزب نحو " الشعبوية"، وهو ما يتناقض جذريا مع فلسفة الحزب وتاريخه، فكان الاقتناع شبه العام بأن على الجميع العمل من أجل إخراج الحزب من هذا المسار، و إرجاعه إلى سكته الطبيعية، ونفهم هذا أكثر حين نستحضر التهديد الذي أصبح يلف أعناق العائلات الكبرى في الحزب، ويضر بمواقعها ومصالحها.
والواقع أن متغير المحافظة على العائلات الكبرى ومواقعها ومصالحها، التقى موضوعيا مع الرؤية التي عبرت عنها السلطات العليا في البلاد، حين أشار العاهل المغربي في خطاب العرش لهذا العام (2017)، إلى أعطاب النخب السياسية، وضرورة إصلاحها وتغييرها بما هو أفضل..ف" حميد شباط" ، على الرغم مما راج عنه حين انتخابه أمينا عاما عام 2012 من أنه صنيعة النظام، أو على الأقل من مباركته، لم يعد مخاطباً مقبولاً، وأن من المصلحة استبداله بأخر أكثر قدرة على التواصل بتناغم، وكما جرت العادة سابقا، مع السلطة واكراهاتها.
هل يستطيع حفيد "علال الفاسي" استعادة قوة الحزب، وتماسكه، ومجده ليستمر رقماً وازنا في المعادلات السياسية المغربية؟، وهل يمتلك "نزار بركة" المؤهلات و"الكاريزما" لقيادة حزب من حجم حزب الاستقلال؟. وحتى في حالة الإجابة بالإيجاب عن هذين السؤالين، هل تحترم السلطة استقلالية الحزب وحرية قراراته واختياراته، هل في مُكن الأمين العام الجديد فرض احترام هذه الاستقلالية؟. كلها اسئلة، وغيرها وهي كثيرة، ستشكل اختباراً حقيقياً لحفيد علال الفاسي، الذي نتمنى له كل التوفيق.