منذ أكثرمن عقدين من الزمن وسؤال الانتقال الديمقراطي يراوح مكانه في المغرب. مع حكومة التناوب التوافقي التي قادها الزعيم الاتحادي عبد الرحمن اليوسفي سنة 1998، كانت بداية قصة الانتقال، عبر صيغة التوافق، بين حكم يرى أن المغرب يعيش "السكتة القلبية" بتعبير الملك الراحل الحسن الثاني رحمه الله، وبين حركة وطنية أصبحت تدرك أن الصراع بينها وبين الحكم لم يفد إلا القوة الثالثة، وأنه لا بد للديمقراطية من فترة انتقال توافقي يتم فيها تقديم تنازلات متبادلة من الطرفين.
لكن وجهت لهذا هذا الأمل ضربة عنيفة مع انتخابات 2002 التي فاز فيها الاتحاد الاشتراكي، إذ لم يجد الحكم أي عائق دستوري يلزمه باحترام المنهجية الديمقراطية، فاختار أن يعين وزيرا أول غير حزبي بعيدا عن ما أفرزته نتائج الانتخابات، مما اضطر عبد الرحمن اليوسفي إلى الانسحاب بشكل كامل من السياسة، وإلقاء محاضرة في بروكسيل سنة2003، تحدث فيها عن الانحراف عن المنهجية الديمقراطية وأعطاب الانتقال من التناوب التوافقي إلى التناوب الديمقراطي.
والمفارقة أنه في اللحظة التي كانت اتجاهات السياسية الدولية تدفع في اتجاه التحولات الديمقراطية في العالم العربي، أي ما بين 2002 و 2010، برزت مؤشرات متناقضة في السلوك السياسي للحكم في المغرب، طرفها الأول يميل إلى مقاومة هذه التحولات في بعدها السياسي، وقد برز ذلك في الاستثمار الضخم الذي أنفقته الدولة من أجل أن تنشئ حزبها بعد نتائج انتخابات 2007، وحالة القلق الشديد التي انتابت النخب السياسية من إمكان عودة المغرب إلى سنوات الرصاص وتجربة الحزب الوحيد، وطرفها الثاني، يجنح للتكيف مع هذه التحولات في بعدها الحقوقي، وذلك بمزيد من الانخراط في منظومة آليات حقوق الإنسان الدولية، ليرتسم نموذج تفاعل الحكم في المغرب مع السياسات الدولية والمحيط الإقليمي في جوهر سلطوي يميل إلى الانفتاح في مجال الحريات الديمقراطية، ويتخوف بشكل كبير من انهيارالمنظومة التي يضبط ويتحكم بها في الحقل السياسي.
مع لحظة الربيع العربي، وبالتحديد لحظة 20 فبراير، حدث تحول من نوع جديد، وربما غير مسبوق في تحولات السياسة في المغرب: حصل التعاقد والشراكة السياسية بمضمون دستوري وسياسي، إذ انطلقت الأجندة ببعض مؤشرات الثقة، ثم بالإصلاح الدستوري (خطاب 9 مارس 2011 الذي أطر دستور فاتح يوليوز2001 )، ليعقب ذلك دينامية سياسية وانتخابية أعطت تصدر الإسلاميين للمشهد السياسي وقيادتهم للحكومة.
على نفس شاكلة حكومة اليوسفي استثمرت الدولة، وربما التزمت بتوفير ضمانات الثقة في هذه الحكومة، لكنها وبسرعة مخالفة لسلوكها مع حكومة اليوسفي، بدأت تبدي غير قليل من الإشارات التي تفيد بضيقها من هذه الشراكة ومضمونها ومكوناتها.
البعض يعتبر أن الحكم استجاب لتحولات السياسة الدولية التي كان من بين أبرزمعالمها سنة 2013 إنهاء تجربة الإسلاميين وتحويل الربيع العربي إلى خريف ديمقراطي في المنطقة، وهي معطيات صحيحة بالنسبة للحالة المصرية التي توجد في مربع الثقل الاستراتيجي، وأيضا بالنسبة للحالة التونسية التي ارتكبت فيها حركة النهضة أخطاء استراتيجية في التفاعل مع المكون السلفي وأيضا في تقدير المصالح االفرنسية، فاستجلبت بعض أسباب إزاحتها أو تقليص نفوذها، لكن، بالنسبة إلى المغرب، ربما كان الوضع مختلفا، إذ لم يكن هناك أدنى تخوف من قيادة العدالة والتنمية للحكومة، بل الثابت أن جزءا مهما من المحيط الدولي وبالأخص الأوربي، لا يزال إلى الآن يعتقد بأن صيغة الشراكة الحاصلة بين الحكم والعدالة والتنمية أصبحت تشكل عنصر استقرار في المنطقة لا سبيل لمراجعته، وأن الذي حصل أن الحكم فاوض الإسلاميين بالمحيط الدولي البعيد ليستعيد جوهره السلطوي الذي تخلى عنه ظاهريا لحظة الربيع العربي.
انتخابات 2015 الجماعية و2016 التشريعية، أعطت بالنسبة إلى قراءة الحكم في المغرب دروسا وتحديات غير مسبوقة، فبالإضافة إلى أن التجربة الحكومية المحدودة في نتائجها الاجتماعية لم تكن حائلا دون تصدر العدالة والتنمية لنتائج الانتخابات، بدأ التخوف من أسلوب إدارة هذا الحزب للسياسة، ذلك الأسلوب الذي يمزج بين تعزيز الثقة مع المؤسسة الملكية وفي الوقت ذاته التمكين للإصلاحات، استطاع أن يفكك بعضا من أجزاء منظومة الضبط والتحكم، ويعزز مقاومة المجتمع لإفساد العملية الانتخابية وتحريف الإرادة الشعبية، ويحدث تحولا كبيرا في الحقل الحزبي بنسج تحالفات موضوعية أربكت منظومة الضبط الحزبي.
دروس الانتخابات الجماعية والتشريعية بالنسبة إلى قراءة الحكم انصبت أساسا على أسباب نجاح أسلوب العدالة والتنمية، وهي بالمناسبة معلنة وبسيطة: نجح أسلوب العدالة والتنمية بسبب أخطاء تكتيكية ارتكبت في معركة التدافع السياسي، وذلك بالدفع بقيادات حزبية صدامية غير ذات مصداقية، وخلق معارضة لا تتمتع بأي مصداقية أو شعبية، وبالتورط في مواقف وسلوكات سياسية تسببت في عقد تحالفات موضوعية على قاعدة الديمقراطية، وأيضا بسبب تمتع العدالة والتنمية بقيادة كاريزمية تعرف كيف تصنع الانتصارات الانتخابية والسياسية.
التحولات الجارية اليوم على مسرح المشهد الحزبي المغربي، والتي انطلقت بوحي من النقد القاسي الذي وجهه الملك إلى الأحزاب، تشير إلى أن آلية التحكم في المشهد الحزبي ستتقوى، بالبحث عن قيادات أخرى هادئة ومعتدلة وضامنة لقدر من الوحدة الحزبية وفي الوقت ذاته متحكم فيها، والاشتغال على إضعاف حزب العدالة والتنمية حكوميا وشعبيا، وذلك بإضعاف تمثيليته داخل الحكومة، وربما بإجباره على قبول تعديل حكومي يضحى فيه بحليفه الموضوعي وإدخال حزب الاستقلال في صيغته الجديدة، أو ربما التفكير في حكومة ائتلاف حكومي تغيب فيها المعارضة بشكل كامل، وتتساوى الأحزاب، ويفقد العدالة والتنمية قدرته على السجال السياسي الذي مثل في الاستحاقات الانتخابية قوته الضاربة.
هذه السيناريوهات التي تكشف محنة الانتقال الديمقراطي في المغرب تملك بعض شروط النجاح، ذلك أن خيارات تغيير قيادات الأحزاب في الاستقلال والأصالة والمعاصرة والاتحاد الاشتراكي ممكنة وليست بالصعبة فضلا عن أن شروطها الداخلية متوفرة ، لكن ضبط الحقل الحزبي يواجهه تحدي العدالة والتنمية، ذلك الحزب الذي لا يزال يتمتع بقدر كبير من استقلالية قراره السياسي، لاسيما إن اختار مؤتمره القادم التمسك بقيادته وتجديده لولاية ثالثة لابنكيران.
التقدير أن الحكم يمكن أن ينجح في تغيير قيادات الأحزاب، ويمكن أيضا أن ينجح في إحداث تغيير شكلي أوجوهري في الحكومة لتجديد الثقة المفقودة، لكن العبرة ليست بإنتاج آليات تعيد العافية لمنظومة التحكم، وإنما العبرة بمناعة النموذج الديمقراطي وقدرة السياسة في المغرب على مواجهة الحركات الاحتجاجية التي باتت شروطها جد مشتعلة اليوم أكثر من أي وقت مضى، وتتجه للتخاطب المباشر مع الملك متجاوزة بذلك كل الوساطات الحزبية والمدينة.