بعد وصلات الشتائم الموتورة، والسباب البذيء لسنوات ممتدة، وبعد التأكيد المستمر - بما يتجاوز الإلحاح! - بأن كل السلالات العائلية الباقية (للشيطان الرجيم) قد رحلت أو نزحت وتجمعت في "غزة" وحدها، مقر الشر والتآمر والفساد والدموية والقبح المطلق، ها هو "عمرو أديب" (1963 -..) يتراجع مائة وثمانين درجة، وها هو يعود أدراجه - إلى الخلف دُر! - ويدخل بقدميه - بمحض اختياره واختيار من رسموا له السيناريوهين: القديم والجديد! - إلى "غزة" ليعانق الشر المطلق الذي يمثله الغزاويون، ويصافح الأشرار القتلة، الذين فتحوا السجون المصرية واقتحموها (كما تقول أسطورة الفيلق الإعلامي المصري المعادي للقضية منذ سنوات!) نعم "أديب" في "غزة" يجلس - بأدب جم! - أمام "إسماعيل هنية"، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، صاحبة التوكيل الحصري لـ"إبليس" على الأرض، ولينتحر المنطق، وليذهب ملايين المشاهدين، الذين تم تغذيتهم بأوهام التطرف الحمساوي المجنون إلى الجحيم، فلا قيمة لرؤاهم، ولا وزن لعقولهم، ولا اعتبار لمشاعرهم الوطنية، تعاطفا أو سخطا! الماكينة الإعلامية تحت أيدينا بكل طواعية و"الدفاتر دفاترنا"، والرأي العام موات مطلق حتى إشعار آخر، فلا بأس من تشكيل علاقة الصداقة الجديدة، بعد هوس العداء الهستيري الذي لم يمضِ عليه أيام! ويبقى سؤال المرحلة بامتياز: هل يعيش "عمرو أديب" - و من خلفه! - في كوكب إعلامي وسياسي آخر، أم إنهم، بالفعل، ينتمون إلى كوكبنا الأرضي، بفضائياته وإعلامه وسياسته واقتصاده ورؤاه؟
"لا نريد أن نعود إلى الماضي.."، هكذا قال "إسماعيل هنية" لـ"أديب" وهو يمسحه من أعلى إلى أسفل بنظرات مستكرهة - تقترب من معنى التقزز والقرف الشديد! - كما أظهرت اللقطات للجميع بوضوح! ولم تملك الإعلامية العربية المعروفة "غادة عويس"، معبرة في ذلك عن انطباع الملايين المصعوقة المندهشة حد الجنون، سوى أن تقول في تغريدة مصدومة: "مقرف منظره في "غزة" بعد ذاك التحريض!"، لم يستوعب "أديب" - ومن خلفه! - حجم الدهشة للتوجه الجديد وتداعياته، ودلالة التنقل (البندولي) بين المواقف المتعارضة، تأرجحا وتحولا، بهذه الكيفية الإكروباتية التي تنط وتقفز بين الموقف ونقيضه، في دقائق كلاعب السيرك!! ولم يدركوا - بالتوازي - معنى "انكسار الصورة الأخلاقية" وتهشمها لآخر قطعة.
منذ فترة قريبة (ليست بالبعيدة!) قال "أديب" عن "حماس"، بخطاب تحريضي بشع: "اللي قتل ولادنا المرة دي (أي في سيناء)، والمرة اللي فاتت ناس جاية من غزة"، ثم أردف قائلا: "أتحدى حد يقول لا"، وهو نفسه الذي قال في حصة إعلامية تحريضية أخرى: "حماس كفرة وتحية لإسرائيل.. إنت صح يا عم..!"، ولم يفطن الرجل، مع الارتباك السياسي الشامل لسلطة مأزومة، أن الجسر الخشبي الذي يقوم بكسره وتحطيمه بمطرقة بلهاء لا تعرف حدودا، سيضطر للمرور فوقه يوما، على نحو ما حدث عندما دخل "غزة" مؤخرا، مشيعا بنظرات البغض والسخط من الداخل الفلسطيني والمصري على السواء!
كنا دوما من أصحاب نظريات العدالة الانتقالية والانفراجات الشاملة والمصالحات الوطنية بين الأطياف والمكونات السياسية والمجتمعية، وكانت أجنحة متنفذة داخل السلطة ترد على ورقة المصالحات المطروحة بالتشهير والعدوانية والاستخفاف، والآن أثبتت مصالحات الوفاق الوطني في "غزة" بين الفرقاء الفتحاويين والحمساويين، برعاية مصرية، أن قدر المصالحات الوطنية قادم قادم، بعد أن انحشرت السلطات المصرية والعربية في الزاوية، وثبت أن المعارضة العدوانية لملف المصالحة داخل مصر، مجرد قصر نظر، وضيق أفق، وعناد صبياني لا يعترف به العالم الحديث، فلتوفر علينا السلطة المصرية سنوات أخرى من الاحتقان والدماء والانهيار الاقتصادي الشامل، بالتعامل الجاد مع ملف المصالحة الوطنية، بالهمة نفسها التي تحلت بها وهي تدعم مصالحات غزة ورام الله، وأول مظاهر الجدية أن تعود خطوة إلى الوراء وتنزع أجواء الاحتقان والتحريض، وشيطنة المنافس السياسي، وتنحّي من المشهد أمراء الخطاب التحريضي الأسود، وعلى رأسهم "عمرو أديب"، وسيكون هذا الخيار الوطني الداخلي، أفضل كثيرا من أن يأتي قطار المصالحة القادمة، مفروضا بفرمان أمريكي!
المصريون المصرية