مهما كانت طبيعة التطورات التي ستحصل لاحقا في العراق، فالثابت هو أن روابط العرب بالأكراد لن تبقى على الحال الذي كانت عليه قبل الخامس والعشرين من أيلول/ سبتمبر الماضي، تاريخ الاستفتاء على انفصال كردستان.
لقد دقت تلك الخطوة وما تبعها من توترات وردود أفعال إسفينا عميقا بين القوميتين، وأدخلتهما بعد عقود طويلة من الشد والجذب والوئام والصراع مرحلة جديدة لا أحد باستطاعته الكشف عن ملامحها الكاملة والنهائية، أو تصور مآلاتها وارتداداتها.
وسوف لن يكون من المفيد أو المناسب الآن أن تبدأ حرب تصفية الحسابات وينطلق التراشق بالاتهامات، أو يتنصل كل طرف من المسؤولية ويلقي بالملامة فقط على الطرف الآخر، في ما وصلت إليه تلك العلاقة من تصدع وتوتر، بقدر ما سيكون من الأجدى والأفضل للجانبين أن يصلا بشكل من الأشكال لصيغة حل وسط يحفظ حقوق العراق والأكراد معا. صحيح أن الطريق باتت الآن مغلقة ومسدودة ولم يعد هناك بصيص أمل في أن طريق التفاوض ما يزال سالكا. ولكن المحاولة ستظل رغم كل ذلك ضرورية ومطلوبة، مثلما سيظل ضروريا ومطلوبا من العرب أيضا أن يعرفوا الأخطاء التي ارتكبوها في الملف الكردي، ويتجنبوا تكرارها مستقبلا في ملفات أخرى تخص قوميات تشترك معهم في الأرض والمصير. ويجب أن لا ننسى أن ما حصل ويحصل في العراق ليس بالأمر المعزول، أو بالحالة الفريدة التي لن تتكرر بالضرورة في مناطق عربية جديدة، متى وجدت بالطبع الظروف والمسببات نفسها.
لقد كان من المهم مثلا أن نفهم سبب اختلاف مواقف بعض أمازيغ الشمال الإفريقي بشأن ما جرى في العراق، مع مواقف العرب المبدئية الرافضة لأي تقسيم أو مس بوحدة التراب العراقي.
وربما عكس التفسير الذي قدمه رئيس المرصد الأمازيغي للحقوق والحريات بالمغرب لتلك الحالة ما يفكر به جزء واسع من النخب الأمازيغية . لقد رد أحمد عصيد لموقع هسبريس الإخباري أن سبب الاختلاف يعود إلى «التشابه الكبير جدا بين تاريخ الشعبين (الكردي والأمازيغي) من حيث نضالهما من اجل هويتهما واستعادة حقوقهما في اللغة والثقافة والهوية» ما «خلق تعاطفا عفويا بين الشعبين، خاصة انهما ضحيتان للقومية العربية». وأضاف بان «أكراد العراق كانوا ضحايا حزب البعث ونظام صدام حسين، الذي قرر إبادتهم وقتل منهم خمسة آلاف في صبيحة يوم واحد بالغازات السامة» معتبرا ذلك «جريمة ضد الإنسانية سكت عنها القوميون العرب في شمال إفريقيا والشرق الأوسط، لكن الأمازيغ تحركوا لإدانتها»، لكن ما لم يقله عصيد وما لا يقوله آخرون غيره هو ضد من ناضلوا ويناضلون؟ هل ضد الحكام الذين لم ينصفوهم مثلما لم ينصفوا آخرين غيرهم؟ أم ضد العرب والعروبة بشكل عام؟ ما من شك في أن إحساس الأكراد والأمازيغ بظلم العرب وهيمنتهم له مبرراته وأسبابه التاريخية والموضوعية العميقة، وهو لم يكن بالطبع وليد الفراغ. ولكن الوصول لحد وضع كل العرب في سلة واحدة ووصفهم بالمستعمرين والمحتلين والدعوة حتى لطردهم من أراض ومناطق معينة كالشمال الإفريقي، مثلما فعلت قبل أيام إحدى السيدات الأمازيغيات حين هددت في شريط فيديو بث على مواقع التواصل الاجتماعي في المغرب بـ»قتل العرب» دفاعا» عن «حق الكرد في تقرير مصيرهم». لن يكون كل ذلك بالتأكيد هو الطريق الأفضل والأجدى لحل الإشكالات الموجودة والعالقة بين الطرفين.
إن من المهم جدا أن يلتقط عرب الشمال الإفريقي هنا مثل تلك الرسائل الغاضبة والمشحونة وألا يعتبروا ما قالته مليكة مزان في ذلك الشريط وهي تتوعدهم: «بأنكم إذا واصلتم رفضكم لقيام الدولة الكردية فإننا كشعوب أصيلة في شمال إفريقيا سنقوم بطرد العرب ليعودوا من حيث أتوا… عودوا إلى بلادكم ارجعوا إلى الحجاز…» هو مجرد انفلات لغوي فردي لا يعكس في أي حال من الأحوال ما قد يفكر به جزء واسع من الرأي العام الأمازيغي المحلي.
إن عليهم أن يتأملوا الواقع جيدا وينظروا إلى الصورة من كل زواياها ويعرفوا كل تلك التراكمات التي جعلت نزعة الانفصال تتغلب على روح الوحدة في العراق. وعليهم أيضا أن يستبقوا الأحداث ويقطعوا الطريق باكرا وقبل فوات الأوان أمام أي جنوح لاقتفاء أثر الأكراد. ولكن بم يحققون ذلك وكيف يتجنبون شبح السيناريو الكردي الذي قد يطل برأسه في أي لحظة؟
صحيح أن لا شيء يدل حتى الآن على أن هناك بوادر أو إشارات واضحة وقوية على أن فرضية الانفصال مطروحة بالنسبة للأمازيغ، الذين تقدر أعدادهم بما يزيد عن ثلاثين مليون نسمة على طاولة أي مطالب. ولكن من يستطيع أن يضمن أن ما يطالبون به اليوم من عدالة ومساواة في المواطنة والحقوق اللغوية والثقافية لن يتحول غدا إلى مطالب استقلال عن الاستعمار العربي؟ ومن يمكنه أن يتوقع المآل الذي ستنتهي إليه شكواهم المستمرة مما يصفونه هيمنة العرب عليهم ومحاولتهم طمس هويتهم وتعريبهم القسري، والتي عبر عنها الفنان الأمازيغي «كاتب أمازيغ» ذات مرة بذلك التساؤل الساخر «إذا كنا عربا فلم تعربوننا، وإذا لم نكن عربا فلم تعربوننا؟» هل باستطاعتهم أن يشذوا عن تلك الموجة الانفصالية الكاسحة التي تكتسح الشرق والغرب بقوة؟ لعل المفارقة الغريبة هي أن البلد الوحيد الذي لم يعترف فقط بالقومية الكردية، بل منح الأكراد حكما ذاتيا واسعا وسمح لهم بإدارة شؤونهم بشكل مستقل وغض الطرف عن تسلحهم وعلاقاتهم وروابطهم بالخارج واستغلالهم لثروات الإقليم بلا رقيب ولا حسيب، هو البلد الذي قرر الأكراد تركه والانفصال عنه تقريرا لمصيرهم.
فهل اخطأ العراق حين ترك الحبل على الغارب وأعطى للأكراد أكثر مما يستحقون؟ أم هل أخطأ الأكراد حين قابلوا التبجيل والتكريم بالإساءة؟ إن ما حصل هو أن نار الأحقاد القومية أعمت البصائر وجعلت الطرفين يعتقدان أنهما نقيضان لبعضهما بعضا وألا مكان لهما فوق الأرض نفسها وتحت السماء نفسها.
ولم تكن هناك بعد الاحتلال الأمريكي مصارحة ومكاشفة لا بهواجس الأكراد ومخاوفهم، ما قد يكون ابتلاعا عربيا لهويتهم، ولا بتطلعات العرب في الحفاظ على تعدد وتنوع العراق داخل الوحدة، واستغل أصحاب المصلحة في الخارج وعلى رأسهم إسرائيل بالطبع، كل ذلك للدخول على الخط وقطف الثمرة.
ولعل ذلك هو الدرس البليغ الذي ينبغي على السلطات في المغرب والجزائر بشكل خاص أن تستخلص العبرة منه، وتسارع لفتح حوار واسع وجدي ومعمق مع الأمازيغ، من دون أن تغفل عن أنها إن فكرت يوما في منح حكم ذاتي لهم من دون أي قيود أو ضمانات، كما فعل العراق مع الأكراد، فإنها ستفتح لهم حينها باب الانفصال على مصراعيه. وفي المقابل ينبغي على الأمازيغ أن يعرفوا أن المغامرات الطائشة من قبيل استفتاءات الانفصال لن تجلب لهم سوى الخراب، وأنه من مصلحتهم ومصلحة دولهم ألا يتكرر خطأ الأكراد مرة أخرى، حتى لا يعيد التاريخ نفسه لا على شكل مأساة ولا على شكل مهزلة جديدة.
القدس العربي