على أرضية ملعب كرة قدم بإحدى قرى كردستان، يرمي حارس المرمى، الطفل زانا، الكرة في اتجاه أخيه الأكبر دانا..
زانا: يا أخي.. إنها لك.. سجل هدفا.
يتلقى دانا الكرة فيجري بها تحت صرخات وتشجيعات الصغير زانا لكنه يسقط ويفقد الكرة التي ترتد هجوما عكسيا.
دانا: زانا! لا تدعهم يسجلون.. أحرس جيدا يا زانا.
زانا: لا تخف يا أخي.. لن يحرزوا الهدف.
يفاجأ الطفل الصغير بالكرة ترتطم بوجهه بقوة أسقطته أرضا. ينهض ويعتدل في جلسته والكرة بجانبه.
زانا: (بحماس) لن أدعهم يسجلون.. لم يسجلوا.. لقد أمسكت الكرة.
دانا: أحسنت يا أخي.
يجري أحد لاعبي الخصم ويدخل الكرة في المرمى.
زانا: لم فعلت هذا؟
اللاعب: لقد سجلت.. لقد دخلت الكرة في المرمى.
ويبدأ الاحتفال..
يجري دانا غاضبا في اتجاه أخيه.
دانا: أنت غبي.. لَمَ لَمْ تمسك بالكرة؟
زانا: لم يكم خطئي.. إنهم غشاشون.
يصرخ الأطفال مبتهجين: لقد وصل السوبرمان.. لقد وصل السوبرمان.
والمشهد من فيلم (بيكاس-2012) للمخرج الكردي العراقي كرزان قادر الذي تدور أحداثة في العام 1990 بكردستان العراق.
قد يكون هذا المشهد الأصدق تعبيرا عما عاشه الأكراد مع حلم تكوين الدولة المستقلة كل عن سلطته المركزية بالعراق وتركيا وإيران وسوريا. فكلما ظن الأكراد أن الحلم أقرب ما يكون واقعا تفاجئهم "دولهم الحاضنة" والقوى الإقليمية والدولية بالتهديد أو الخذلان. وكلما ظهر أن شرقا أوسطيا جديدا تشكل ومعه إمكانيات "الاستقلال" الكردي، يصدم المعنيون الظاهر على السطح تغييرا لا يعدو أن يكون مجرد وهم ميزته "غش" اللاعبين الرئيسيين. وما جمهورية مهاباد الكردية شمال غربي إيران التي لم تكد تبصر النور في العام 1946 حتى أسقطتها حكومة الشاه محمد رضا بهلوي بدعم أمريكي أشهرا فقط بعد إعلانها إلا دليلا، وهو ما انتهت إليه التجارب الستة الأخرى في درب السعي لتكوين دولة الأكراد المستقلة.
في العراق، تمكن الأكراد من تأسيس كيان مستقل ذاتيا منذ سنوات بالنظر إلى ما أصاب الدولة المركزية ببغداد من وهن وضعف أرخى بظلاله على قدرتها من بسط السيطرة على كردستان بل على أي شبر من تراب الوطن الذي أنهكته الحروب المتتالية التي انتهت إلى غزو أمريكي أتى على الأخضر واليابس، فتقاسمته الولاءات المذهبية والصراعات الطائفية المغلفة بلبوس حزبي قبل أن يزيده الوافد الجديد الممثل في داعش قتامة وظلاما. واليوم أعلن البرلمان الكردي، الذي عاد للانعقاد بعد فترة نقاهة ديمقراطية دامت سنتين، عن الموافقة على إجراء الاستفتاء في الخامس والعشرين من الجاري بتأييد 65 برلمانيا من أصل 111 عضوا. إعلان كان كافيا ليستنفر الحكومة والبرلمان المركزيين والمحكمة الاتحادية العليا للتأكيد على رفض الخطوة والتحذير من مآلاتها.
صوت البرلمان العراقي بأغلبية أعضائه على رفض قرار إقليم كردستان العراق، وأصدرت المحكمة الاتحادية أمرا ولائيا بوقف إجراءات الاستفتاء المزمع عقده لحين الحسم في الدعاوى المتعلقة به. أما الحكومة فاعتبرت القرار غير دستوري وانتهاكا لسيادة العراق وتعدت الأمر إلى التخطيط لتعيين حاكم عسكري على مدينة كركوك، لعزلها عن كردستان وإثنائها على المشاركة في الاستفتاء، مع إعطاء الضوء الأخضر للحشد الشعبي بالتحرك نحو مناطق التماس مع قوات البيشمركة بما ينذر بالحسم العسكري خيارا مطروحا.
ولأن الارتهان للخارج والسيادة المنقوصة سمتان يطبعان الوضع العراقي العام بكردستانه وبقية أطرافه، كما كل دول المنطقة، فقد كان تدخل القوى الإقليمية والدولية أمرا طبيعيا بدءا من إيران التي هددت بقطع العلاقات مع الإقليم، وتركيا التي اعتبرت أن ما يحدث بكردستان العراق يعد مساسا بأمنها القومي، مرورا بالأمم المتحدة والاتحاد الأوربي وشيئا يسمى "الجامعة العربية" وانتهاء بالولايات المتحدة الأمريكية، وكلها مواقف تصب في خانة الحوار واحترام الدستور العراقي والبحث عن بدائل لاستفتاء تقرير المصير فالمعركة الدولية ضد داعش لا تحتمل معارك "جانبية" تمنح التنظيم فسحة أمل في استعادة الأنفاس ورص الصفوف. لقد صارت "وحدة العراق" الكلمة المفتاح على ألسنة الدول والمنظمات التي ساهمت بالفعل أو الصمت في تفكيك أركان البلد وتحويله لمجرد محميات ومناطق مرتهنة لا يجمعها ناظم غير انتشار الفساد والإرهاب. وسواء أجري الاستفتاء أو أجل فالواضح أن القرار لا يملكه لا البرزاني ولا العبادي ولا غيرهما. فكما بقيت كركوك حتى اليوم تابعة لقانون الحاكم الأمريكي بول بريمر، فإن صفارة الحكم في مباراة الاستفتاء بيد السوبرمان الأمريكي.
على ربوة جبل ينظر الطفل دانا إلى الأفق حيث دخان كثيف..
زانا: أخي.. ما الذي تنظر إليه؟
دانا: أمريكا!
زانا: ومن هو أمريكا؟
دانا: أمريكا مدينة كبيرة حيث يعيش السوبرمان.. هناك العديد من المباني الطويلة بما يكفي للوصول إلى القمر.
زانا: وكيف تعرف كل هذا؟
دانا: أيها الغبي.. لقد درست الإنجليزية.. الإنجليزية.
زانا: آه.. وأنا أيضا أعرف أمريكا يا أخي. سوبرمان يعيش هناك.
زانا: أحسنت يا أخي.. سوبرمان يتحدث الأمريكية. الآن وجب علينا نحن الاثنان الذهاب إلى هناك.
ولأجل الوصول إلى أمريكا يستعين الطفلان بخريطة لا يفقهون في إحداثياتها شيئا وبحمار أطلقا عليه اسم مايكل جاكسون.. وفي الطريق يتحاوران.
زانا: أخي.. كيف أصبح سوبرمان سوبرمان؟
دانا: كان والده سوبرمان أيضا.
زانا: وهل يتحدث اللغة الكرية.
دانا: طبعا! إنه بطل ويتحدث كل لغات العالم.
زانا: لو كان عند سوبرمان ابن، هل سيكون سوبرمان أيضا؟
دانا: بالطبع إن كان فتى.
زانا: وإن كان فتاة؟
دانا: يكفي هذا.. لقد أزعجتني.
مشكلة الأكراد الأساسية اليوم أن كثيرا من قوى المنطقة تعتبر نفسها "سوبرمانات" ولو كانت من ورق.
لندقق في الخبر التالي:
تبنى برلمان إقليم كتالونيا قانونا لإجراء استفتاء للاستقلال عن إسبانيا في الفاتح من أكتوبر المقبل بأغلبية 72 نائبا من أصل 135 عضوا، وهو القرار الذي اعتبرته الحكومة المركزية غير شرعي وأيدته المحكمة الدستورية الإسبانية التي علقت القانون وحذرت منظمي الاستفتاء من التعرض لملاحقات.
تحذير تحول لأمر واقع حيث منحت الحكومة لقوى الأمن الحق في حجز صناديق الاقتراع بل توالت المداهمات والتوقيفات حتى طالت عددا من المسؤولين الكبار في الإدارة الكتالونية، وهو ما اعتبره رئيس كتالونيا كارليس بويجديمونت فرضا لحالة الطوارئ بأمر الواقع وتعليقا لمقتضيات الحكم الذاتي.
رئيس الحكومة الإسبانية ماريانو راخوي كان صرح أن " الاستفتاء لن يتم" وأنه "حركة عصيان غير مقبولة على المؤسسات الديمقراطية". أما المدعي العام الإسباني فقد صرح أن اتهامات جنائية ستوجه لأعضاء بارزين في برلمان كتالونيا لسماحهم بإجراء التصويت على قرار تنظيمه، وهو ما تلاه استدعاء عدد من رؤساء البلديات الكتالونية المساندين لأطروحة الاستفتاء للتحقيق. الدعوة للاستفتاء الكتالوني مجرد حلقة من مراحل تاريخية كبرى لعل آخرها كانت في العام 1934، وكلها محاولات فشلت وانتهت بتعيين أكثر من 130 رئيسا للاقليم سواء من فرنسا أو بريطانيا أو إسبانيا.
إلى هنا انتهى الخبر المفتوح على تطورات قادمة لن تخرج عن الإطار الإسباني. الاختلاف الوحيد عن الحالة الكردية أن لا الاتحاد الأوربي تدخل في الموضوع وهو معني به إلى درجة كبيرة في الموضوع ولا الأمم المتحدة ولا غيرها من دول الجوار ولا السوبرمان الأمريكي. إسبانيا دولة مستقلة كاملة السيادة والاستفتاء أمر داخلي رغم تبعاتها الخارجية على المستوى الأوربي على الخصوص. هذا هو الفرق بين دول قائمة تتمتع بسيادتها وبرلمانات جهوية تتمتع بالسند الشعبي وفق آليات ديمقراطية شفافة وغير مطعون في شرعيتها، وشعوب تمتلك المعلومة التي تسمح لها باتخاذ القرار الأصوب في تقرير مصيرها.
في الموضوع الإسباني يعلم الجميع ما الذي ستخسره إسبانيا من انفصال إقليم كتالونيا وما الذي سيخسره الأخير أيضا. المحرك في الموضوع وإن كان في جزء منه هوياتيا يستمد جذوره من العهد الفرانكوي، كما هو حال كردستان مع النظام البعثي، فإن المؤشرات الاقتصادية هي المحرك الأكبر لتحركات الجانبين. كتالونيا منطقة صناعية كبرى سيؤدي استقلالها إلى خسارة الدولة الإسبانية 20 بالمائة من ناتجها القومي و26 بالمائة من صادراتها و70 بالمائة من حركة المواصلات المتعلقة بالتجارة الخارجية و45 بالمائة من المواد التكنولوجية المصدرة و14 بالمائة من إجمالي سكان البلاد، وطبعا فريقا بحجم البارصا التي رفع جمهورها قبل أيام لافتة (مرحبا بكم في الجمهورية الكتالونية) بالكامبنو. من سوء حظ الأكراد أنهم لا يتوفرون إلا على لاعبين حفاة وملاعب جرداء كما ظهرت مع الطفلين دانا وزانا في فيلم (بيكاس).
في استفتاء غير رسمي نظم في العام 2014، صوت ثمانون بالمائة من المشاركين الذين لم يتعدوا نصف الكتلة الناخبة على قرار الانفصال. استفتاء اعتبرته السلطة المركزية مجرد تنفيس عن المشاعر القومية التي تنامت بالإقليم. لكن الواضح أن البروفة ستتحول إلى أمر واقع في مقبل الأيام حيث أن التجربة الأسكتلندية التي سمحت بها بريطانيا قد لا تتكرر هنا لو أفضى الأمر إلى الاحتكام لصناديق الاقتراع.
التجارب العربية لم تكن يوما مشجعة وفي أوضاع دولة جنوب السودان العبرة والدليل. عندما لا تكون الجهة الراغبة في الاستقلال ولا المنطقة الحاضنة على علم بأرقام الربح والخسارة المترتبة على قراراتها أو مستعدة لتقبل دولة جديدة تقتسم الثروات وتنافس على النفوذ، فانتظر "دولة فاشلة" أخرى تسير على ركب الأسلاف إلى القاع.
أتذكرون هذا المشهد؟
زانا: أخي.. كيف أصبح سوبرمان سوبرمان؟
دانا: كان والده سوبرمان أيضا.
زانا: وهل يتحدث اللغة الكرية.
دانا: طبعا! إنه بطل ويتحدث كل لغات العالم.
زانا: لو كان عند سوبرمان ابن، هل سيكون سوبرمان أيضا؟
دانا: بالطبع إن كان فتى.
زانا: وإن كان فتاة؟
دانا: يكفي هذا.. لقد أزعجتني.