اعتاد المسلمون أداء شعيرة الحج إلى مكة المكرمة بالجزيرة العربية المكان الذي ولد فيه الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، ومنها صدح برسالته التوحيدية، وهي فريضة مطلوب من المسلم ذكرا أم أنثى أداؤها مرة واحدة في العمر لمن استطاع إليه سبيلا، أي لمن يمتلك القدرة البدنية والمالية على ذلك.
ورغم أن الحج يبدو في ظاهره مجرد واجب ديني يؤديه المسلم امتثالا لتعاليم دينه، إلا أنه يبدو مفعما بالمعاني الروحية والفلسفية التي تحتاج إلى التأمل الحصيف لفهم دلالتها والرسائل التي تبعث بها.
أولى المعاني المرافقة للحج، هذا الحشد البشري الهائل الذي يضم أناسا وأعراقا شتى في حركة دائرية منضبطة ومنظمة حول الكعبة، هو حضور الدلالة والمعنى في حياة المسلم التي تنتظمها غاية واحدة ووجهة واحدة منتهاها توحيد الخالق.
يردد الجميع في طوافهم حول الكعبة وبلسان واحد وصوت واحد "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك"، من هنا يحضر معنى التوحيد المطلق على مستوى الحركة الفيزيائية للحجيج وعلى مستوى اللسان، فيتماهى الحاج في معنى التوحيد المطلق حسا وروحا.
أي إن الحج يعمر قلب المسلم وروحه بكثافة المعنى والقيمة في هذا الكون، حيث يدور كل شيء حول مركز التوحيد المطلق، وهذا خلافا لمعنى العدمية التي تشعر الإنسان بغياب الوجهة والغاية، فتسقطه في الفراغ المطلق نتيجة انعدام الوجهة والغاية المحددة وتجعل منه مجرد نقطة تأويلية متحركة لا غير.
والعدمية كما عرفها الفيلسوف الألماني نيتشه تعني "a movement toward x" أي حركة عشوائية لا وجهة ولا غاية لها نتيجة غياب هذه الغاية أصلا بعد موت الآلة. ويعبر أبو القاسم الشابي عن هذه النزعة حين يتساءل:
"نحن نمشي ومن حولنا هذه
الأكوان تمشي لكن لأية غاية؟"
يختزن الحج دلالتي الكونية الجامعة والمساواة التي تتخطى الحدود الجغرافية والعرقية واللغوية حيث تتحد مناكب مئات الألوف من البشر من كل أصقاع العالم في هيئة واحدة (لباس الإحرام) من دون تمييز بين غني وفقير أو بين حاكم ومحكوم.
يتوحد الجميع هنا في لباس واحد وهيئة واحدة، بما يوحي بوحدة الأصل والخلق، كما ورد في خطبة الوداع حين خطب النبي الأعظم في الناس فقال "أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب".
كما يرتبط الحج بترسيخ معنى المسالمة والموادعة وتجنب كل أشكال العنف والعدوان، مع ضبط اللسان والسلوك. قل وندر أن نرى في عالم اليوم هذا المشهد المليوني من البشر وهم يتحركون في نسق واحد واتجاه واحد، بكل سلاسة وهدوء، من دون أن يكون ذلك مصحوبا بعنف أو عدوان أو فوضى، "فلا رفث ولا فسوق في الحج".
فالحج تربية للمسلم على إشاعة قيم السلم والتعايش بين إخوانه المسلمين وفي عموم العالم، والمثال المصغر والمجسد لذلك هو الفضاء المكي الواسع: "أيها الناس إن دماءكم وأعراضكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا".
إن ملبس الحاج الذي يتخفف من كل شيء، من دون عطر ولا تطيب أو قَص للشعر، هو تذكير بالفطرة البشرية البسيطة. وهو أهم من كل ذلك استحضار لمعنى الموت والحياة الآخرة، بلباس الإحرام الأبيض والبسيط يذكر الحاج بكفن الموت، خرقة القماش التي يُلف بها الجسد عند وفاته ويدفن بها في القبر..
هذا يعني أن الموت ليس مجرد محطة بعيدة وقادمة، فهو يسكن الحياة وينبث في كل مناحيها، مما يفرض على المسلم استحضاره دوما، مما يضفي على الحياة الدنيا معنى النهائية والنسبية. مهما بلغ شأن الناس من مال وسلطة وجاه، هم زائلون ومنتهاهم الموت أو الانتقال إلى الحياة الآخرة "ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام".
طبعا، إن فكرة الموت لا يجب أن توحي بعدمية الحياة، بل ينبغي أن تضفي عليها طابع النسبية والغائبة، لا تنزع عنها القيمة والعمق. فمن المطلوب أن يعيش متعة الحياة بكل أبعادها، ولكن أن يستحضر في ذات الوقت لحظة الموت الحاضرة بكثافة في حياة المسلم، أي إن فكرة الموت تضفي معنى المحدودية والنسبية للحياة ولا تنزع عنها القيمة والمعنى.
يقترن الحج بمعنى الترابط بين الديني والأخروي، فهو محطة للتطهر الروحي واستحضار معاني التوحيد المطلق، ولكنه مناسبة أيضا للتجارة وتبادل المنافع بين الملايين من البشر.
إن المسلمين اليوم في أجواء الصراعات والحروب التي تعصف ببلدانهم، وفي خضم صعود جماعات العنف والإرهاب والقتل المتبادل الذي يمارس باسم الإسلام، هم في أمس الحاجة إلى إبراز هذه المعاني الدينية والروحية وإلى تذكير أنفسهم والعالم من حولهم بأهمية تجسيد هذه الرسائل المتضمنة في الحج وفق النداء الكوني "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم".