قضايا وآراء

زيارة عباس لتركيا.. الخلفيات والأهداف

1300x600
على نحو مفاجئ وقبلها بأيام فقط تم الإعلان عن زيارة الرئيس محمود عباس لتركيا بناء على دعوة من الرئيس أردوغان؛ الزيارة القصيرة تخللها طبعاً اللقاء الأهم بين الرئيسين جرت في الحقيقة بناء على طلب الرئيس الفلسطيني، وتركزت على طلب الطرف الفلسطيني أيضاً المتمثل بكيفية إنهاء الانقسام، وإجراء المصالحة بين حركتي فتح وحماس. 

للتوضيح أكثر فقد تواجد القيادي الفتحاوي جبريل الرجوب في تركيا بداية آب/ أغسطس -لقاء وزراء الشباب في التعاون الإسلامي- وطلب لقاء معالحكومة  التركية تحدث فيه عن رغبة القيادة الفلسطينية في لعب تركيا دور الوسيط بين فتح وحماس، من أجل إنهاء الانقسام. 

تركيا رحبت طبعاً وطلبت تقاصيل إضافية، فأرسلت فتح وفدا رفيعا من اللجنة المركزية للقاء المسؤولين الأتراك وتقديم تفاصيل وشروحات إضافية وتكلل الأمر باتصال هاتفي أجراه الرئيس عباس نفسه مع الرئيس أردوغان وتم فيه توجيه الدعوة الرسمية لإجراء الزيارة والتباحث المباشر مع الانفتاح التركي، طبعاً على الوساطة والسعي لإنهاء الانقسام الفلسطيني المؤسف الضار، والذي طال أكثر مما ينبغي.

طبعاً الرئيس عباس كما قيادات فلسطينية حمساوية أخرى مرحب بها على الدوام في تركيا، غير أن هذه الزيارة تحديداً كما قلنا تمت بناء على طلب أبو مازن، وبالتأكيد لا يجري الحديث عن مبادرة تركية، وإنما مبادرة فلسطينية ومن عباس نفسه من أجل إنهاء الانقسام من حماس مع طلب العون أو المساعدة من الطرف التركي الذي يحتفظ بعلاقة جيدة مع الحركة الإسلامية.

للعلم أيضاً فإن تركيا احتفظت على المستوى الرسمي طول الوقت بعلاقة جيدة مع السلطة الفلسطينية والتعامل الرسمي يتم عبر السفارات أو الممثليات المتبادلة والعمل الخيري والإغاثي لإنقاذ غزة، وتحسين الأوضاع الكارثية المنهارة أيضاً، لم يحجب إلا على المستوى الإعلامي فقط العمل الخيري والإغاثي في الضفة الغربية، بما في ذلك طبعاً العمل لإقامة المنطقة الصناعية في  جنين، مع اهتمام تركي كبير بدعم صمود الفلسطينيين في القدس، تحديداً وعلى كافة المستويات الاقتصادية الاجتماعية والدينية.

فيما يتعلق بالقدس فقد أظهرت الأزمة الأخيرة فيها حجم التعاطف والمساندة التركية للحق الفلسطيني، وعلى المستويين الرسمي والشعبي، ولم تتصرف القيادة التركية بحساسية أبداً تجاه سعي السلطة الفلسطينية ولو متأخراً لقيادة الاحتجاجات والهبة الشعبية، ولا حتى برغبة الأردن في التمسك بالوصاية الدينية على الحرم القدس الشريف. تركيا الجديدة تصرفت دائماً، وكما تركيا القديمة كصديقة للشعب الفلسطيني ودعم للحق الفلسطيني دون أي تنازع أو انحياز إلى هذا الطرف أو ذاك.

يجب الانتباه كذلك إلى الموقف التركي، ليس فقط من ضرورة إنهاء الانقسام، وإبداء الاستعداد للقيام بما بوسعها لتحقيق هذه الغاية النبيلة، وإنما لمساندة الحق الفلسطيني في مواجهة الاحتلال والمنسجم مع الموقف العربي والإقليمي الداعم لما يعرف بحل الدولتين وحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة ضمن حدود حزيران/ يونيو 67 عاصمتها القدس الشريف طبعاً.

إذن الموقف التركي يبدو واضحا ومعروفا أصلاً. أما الجديد فيتعلق بطلب الرئيس عباس نفسه مباشرة ورسميا أن تتدخل تركيا من أجل الانقسام، وهو ما لم يحدث من قبل، وأعتقد أنه مرتبط بعدة أمور. ففي العادة كان عباس يطلب التدخل من قطر لقربها أو علاقتها الجيدة مع الطرفين، إلا أن الأزمة الخليجية وتعقيداتها تحول دون قيام الدوحة بهذا الدور، ولذلك كان طبيعياً أن يطلب ذلك من القيادة التركية.

جوهر الطلب يتعلق كذلك بالرد على موقف نظام السيسي من رعاية التفاهمات بين حماس ودحلان أو الضغط لإعادة القيادة الفتحاوى المفصول للمشهد الفلسطيني، وقبل ذلك وبعده اعتقاد عباس أن الظرف بات مهيأ أكثر بعد خطواته العقابية والقاسية الأخيرة لتطويع أو لخفض حماس سقف مطالبها من أجل إنهاء الانقسام وتطبيق تفاهمات المصالحة.

عباس تلقى تقريراً من هيئة مصغرة شكلتها اللجنة المركزية، وأفاد أن الأوضاع في قطاع غزة على شفا الانهيار بعد خطواته الأخيرة، وأن شريحة واسعة من أبناء فتح تضررت، وهذا ما يقف خلف الطلب ممن تمت إحالتهم للتقاعد في قطاعي الصحة والتعليم العودة لممارسة مهامهم وعمد بالتالي إلى أخذ وقت مستقطع لرؤية رد فعل حماس، واستعدادها للتعاطي إيجابا مع مبادرته التركية، خاصة بعد التأكد من عجز تفاهم حماس دحلان المصري عن إحداث تحسين جدي في أوضاع غزة مع استمرار عمل المعبر في وتيرته البطيئة المعتادة، وإعلان المسؤول الدحلاني سمير المشهرواي عن استعداد الإمارات لتقديم دعم شهري بمقدار 15 مليون دولار -180 مليون سنويا- وهو ما يقل كثيراً عن حجم المشروعات القطرية التي كانت أصلاً بمثابة المسكّن لأوجاع وأزمات القطاع، وكثيرا جدا عن الميزانية المطلوبة لإعادة بناء القطاع التي تبلغ 10 مليارات دولار تقريباً بمدى زمني بخمسة سنوات على الأقل أي بمتوسط 2 مليار دولار سنوياً.

عباس كسياسي عتيق مجرب -لم يكن يقال عنه فقط إنه يمين صهيوني من قبل اليسار المتطرف في فتح وإنما ماكر ونابه أزرق أيضا- تعاطى دائماً بلا مبالاة وحتى بتعال مع جهود نظام الصول السيسي وضغوطه لتعويم دحلان، وإعادته إلى المشهد الفلسطيني، وهو كان مقتنعاً دائما أن نظام الصول عاجز عن التأثير جذرياً على المشهد الفلسطيني، وحتى عن تحسين الأوضاع بشكل ملموس وجدي في غزة.

يجب الانتباه إلى أننا ليس أمام استدراج لوساطة التركية بالمعنى التقليدي للمصطلح، فقد انتهى زمن الوساطات في الشأن الفلسطيني مع انشغال العواصم الإقليمية المعنية بشؤونها وشجونها وانتقال الأمر إلى الملعب الفلسطيني الداخلي، حيث كان اتفاق الشاطئ -نيسان/ إبريل 2013- دليلا ملموسا على ذلك، وما هو مطلوب ليس سوى توفير تركيا للسلم لنزول الطرفين عن الشجرة العالية للانقسام، وتخفيض سقف مطالبهم مع سعي عباس للتأثير على ذلك، وفرض شروطه أو مطلبه عبر تقديمه مبادرة والطلب من تركيا تمريرها لحماس لاقناعها و نيل الموافقة عليها.

مواقف عباس تتضمن مطالبه وشروطه التقليدية مع تخفيف ما في الصياغة، ولكن الإصرار على البنود الثلاثة نفسها أي حل اللجنة الإدارية، تمكين حكومة التوافق من العمل فى غزة والذهاب إلى الانتخابات بعد ست شهور، وإطار عام لحل قضية الموظفين، ولا حديث عن التشريعي طبعاً مع إشارة إلى عقد الإطار القيادي المؤقت لمنظمة التحرير، ولكن بعد ثلاثة شهور على مباشرة حكومة التوافق عملها.

المبادرة تبدو معقولة في الشكل العام، ولكن تحتاج إلى نقاش كثير في التفاصيل التي تسكنها الشياطين عادة. وهنا أيضاً تتمحور مهمة تركيا في جلب الطرفين للنقاش، ولو للمرة الأولى، ومن ثم انتقال الحوار إلى الداخل أي إلى الضفة وغزة.

لا يجب تجاهل عامل المناورة وليس المؤامرة من قبل عباس، وإعطاء حماس فرصة للقبول بشروطه، ولكن بشكل ناعم وتبرير أي خطوات يقوم بها لاحقاً، قد تدفع إلى حد الانهيار التام للأوضاع في غزة، خاصة بعد انسداد الآفاق أمام خيار دحلان المصري الأمني.

الكرة الآن فى ملعب حماس وأعتقد أنها فهمت خاصة قيادتها السياسية -السيد إسماعيل هنية وبعض قيادات الداخل خاصة فى الضفة الغربية- أن خيار دحلان المخابرات المصرية لن يؤدي إلى إحداث اختراق كبير في الوضع الغزاوي ناهيك عن جوهره الأمني البحت، وأعتقد أن الحركة ستكون منفتحة نفسياً وسياسياً على الجهود التركية وحتى على مبادرة عباس الأخيرة مع العمل على تحسينها خاصة في القضية الأكثر حساسية -الموظفين- وللأسف وبعدما أضاعت القيادة العسكرية آخر فرصة للمصالحة من موقع قوي أو ندي –إعلان الدوحة 2012- فإن عليها ألا تفشل الجهود الحالية، مع الاقتناع بأن معادلة الخروج من الحكومة والبقاء في الحكم لم تعد مطروحة وبالمتناول، والمراهنة على محور الإمبراطورية الفارسية وحشدها الشعبي العسكري والإعلامي غير مجدية وما يقدمه المحور محدود وقاصر عن إخراج غزة من أوضاعها المأساوية والسعي في المقابل لشراكة ما في السلطة عبر المجلس التشريعي الجديد ومنظمة التحرير، والسعي لدعم المقاومة الشعبية فى الضفة الغربية باعتبارها ساحة المقاومة الرئيسية والمركزية والاستعداد ليس فقط لمرحلة ما بعد الانتخابات وإنما لمرحلة ما بعد عباس نفسه، مع اعتبار إنهاء الانقسام و إعادة غزة وأهلها للحياة هي الأولوية والبند الأهم على جدول الأعمال، وهي العملية التي ستستغرق سنوات لكنها ستضمن في الحد الأدنى الحفاظ على المشروع الوطني ومنع تصفية القضية أو تأييد الانفصال بين الضفة وغزة.