لا مشكلة في أن تبدي جامعة الدول العربية وجهة نظرها في شأن الاستفتاء الكردي. وجّه الأمين العام للجامعة أحمد أبو الغيط رسالة إلى رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني يدعوه فيها إلى إعادة النظر في القرار القاضي بإجراء استفتاء شعبي يوم الخامس والعشرين من أيلول المقبل، يقرّر الأكراد العراقيون في ضوء نتيجته هل يستقلون عن العراق أم لا.
تؤدي جامعة الدول العربية واجبها. لا يمكن للجامعة البقاء في موقف المتفرّج في مرحلة مصيرية من نوع تلك التي يمرّ فيها العراق. تبدو رسالة أبو الغيط إلى مسعود بارزاني طبيعية. كان يمكن أن تكون طبيعية أكثر لو اتخذت الجامعة موقفا من الأحداث الأخيرة، التي شهدتها مدينة الموصل وما يقوم به «الحشد الشعبي» بحجة الحرب على «داعش».
لا يمكن لوم الأمين العام للجامعة على الرسالة. يمكن فقط التذكير بأنّ الأكراد يسعون إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه بالنسبة إليهم كشعب موجود على خريطة المنطقة. كلّ كلام من نوع أن الاستفتاء «سيحمل رسالة سلبية لأبناء الشعب العراقي من غير الأكراد، ويفتح الباب أمام رياح الشرذمة والتفتيت، ويزيد تعقيد الأوضاع الإقليمية، بل قد يساهم في تعقيد المشهد الكردي ذاته بصورة لا يرغب فيها أحد»، ليس من له ما يبرّره. إنّه كلام قديم لا يمكن أن يتلاءم مع وضع جديد لم يعد فيه من مجال لأي تباك على وحدة العراق التي صارت جزءا من الماضي البعيد.
هل الاستفتاء الكردي سيؤدي إلى شرذمة العراق؟ هل للاستفتاء علاقة بتفتيت العراق؟
الأكيد أن الاستقلال الكردي ليس حلا سحريا. ليس ما يضمن أن يتمكن الأكراد من إقامة دولة ناجحة، خصوصا أنّهم سيتعرّضون لحملات عراقية وتركية وإيرانية، إضافة إلى انقساماتهم الداخلية. لكنّ ما لا يمكن تجاهله أنّ لجوء الأكراد إلى الاستفتاء، هو نتيجة وليس سببا. انّه نتيجة التشرذم والتفتيت اللذين يعاني منهما العراق، بل يعاني مما هو أسوأ من ذلك. إنّه يعاني قبل أيّ شيء من الطبقة التي تحكمه ومن وقوعه تحت الهيمنة الإيرانية، ومن لجوء إيران إلى إثارة الغرائز المذهبية؛ بغية إحكام سيطرتها على كلّ مفاصل السلطة فيه.
لم يعد من مكان للأكراد في العراق الموحّد. ليس رئيس الجمهورية الكردي فؤاد معصوم سوى صورة في إطار أنيق في أحسن الأحوال. منذ خروج هوشيار زيباري من الحكومة، بعدما كان وزيرا للخارجية ثمّ وزيرا للمال، لم يعد الأكراد في أيّ موقع مهمّ في بغداد.
تظهر الأحداث التي توالت منذ العام 2003، تاريخ قيام النظام الجديد في العراق، أن الحكم العراقي قام بكلّ ما يمكن القيام به من أجل جعل الأكراد يكفرون بالوحدة العراقية ويهربون منها. لذلك لا معنى يذكر لكلام من نوع القول لبارزاني إنّ «حقوق الأكراد لا يمكن تلبيتها بصورة كاملة إلّا في إطار الدولة العراقية الفيديرالية الديموقراطية».
استطاع الأكراد في مرحلة ما بعد سقوط صدّام حسين على يد الجيش الأمريكي، إقامة منطقة حكم ذاتي ورفع علمهم. استفادوا قدر المستطاع، وأن ضمن حدودا معيّنة، من موارد الدولة العراقية. لعب جلال طالباني قبل تعرّضه لجلطة دورا كبيرا في إيجاد نوع من التوازن داخل السلطة، اقلّه نظريا. كان ذلك عائدا الى علاقته الطيّبة بايران وامتلاكه هامشا من المناورة. لكنّ أشياء كثيرة انتهت مع خروج طالباني من الرئاسة، بما في ذلك ضمور الوجود السياسي الكردي في بغداد وتصاعد الهجمة الإيرانية على البلد من منطلق مذهبي يقوم على خلق واقع جديد يستند أوّل ما يستند إلى «الحشد الشعبي».
لا يمكن للأكراد القبول بالعيش في ظلّ نظام يشكل «الحشد الشعبي» عموده الفقري. هذا ما يفترض أن يستوعبه الأمين العام لجامعة الدول العربية، الذي كان مفيدا لو اتخذ موقفا من عمليات التطهير العرقي والمذهبي التي قامت بها ميليشيات «الحشد الشعبي» ومن تشريعه.
كان هناك تضخيم للدور الذي أداه «الحشد الشعبي» في تحرير الموصل من «داعش». كان هناك نوع من التجاهل للدور الذي أداه المقاتلون الأكراد. لم يكن الهدف تحرير الموصل بمقدار ما أنّه كان تدمير الموصل، بصفة كونها مدينة عراقية كبيرة لا هيمنة للأحزاب المذهبية التابعة لإيران عليها.
كان الأجدر بالأمين العام لجامعة الدول العربية، الذي يمتلك من دون أدنى شكّ خبرة سياسية طويلة، التوجّه إلى الحكومة العراقية برئاسة الدكتور حيدر العبادي أوّلا. كان الأجدر سؤال الحكومة ورئيسها عن الخطوات التي أقدمت عليها من أجل توفير الحماية لكل المواطنين العراقيين، من دون تفريق في الدين والمذهب والقومية.
بعد كلّ المآسي العراقية والقطيعة بين بغداد والمنطقة الكردية والمماحكات اليومية بين الجانبين، لا يمكن لوم الأكراد على أي خطوة يمكن أن يقدموا عليها، بما في ذلك اللجوء إلى استفتاء شعبي لإعلان دولتهم المستقلّة. اللافت في الأمر أنّهم يقدمون على ذلك في ظروف دولية وإقليمية مواتية، يوفّرها الدعم الأمريكي القوي للمشروع الكردي.
قبل العملية العسكرية الأمريكية التي انتهت بإسقاط النظام العراقي السابق، رضي الأكراد بمشروع دستور يعتبر البلد «فيديراليا». آن أوان الانتقال إلى مرحلة جديدة بعد فشل المشروع الفيديرالي. لماذا فشل هذا المشروع؟ هذا ما كان على أحمد أبو الغيط أن يسأل نفسه عنه، قبل الطلب من مسعود بارزاني إعادة النظر في الاستفتاء على الاستقلال.
في حال حصول الاستفتاء في موعده، تبدو النتيجة معروفة سلفا. ستكون هناك أكثرية ساحقة مع إقامة الدولة الكردية المستقلة، علما انّ ذلك سيثير مخاوف كبيرة في انقرة وطهران. إضافة الى ذلك، ستظل هناك أسئلة كثيرة مطروحة في شأن العلاقة بين الدولة الكردية المستقلة في العراق من جهة واكراد كل من تركيا وايران وسوريا من جهة أخرى. كذلك سيكون هناك سؤال يتعلّق بمستقبل كركوك. كيف حلّ مشكلة هذه المدينة التي يعتبرها الاكراد جزءا لا يتجزّأ من كردستان.
تبقى نقطة أخيرة. هل يتعلّم الاكراد، في حال حصولهم على الاستقلال من تجارب الماضي القريب، بما في ذلك القتال الداخلي بين جماعة بارزاني وجماعة طالباني؟ هل يتفادون تجربة جنوب السودان الذي استقلّ في العام 2011، والذي لم يستطع أن يكون دولة قابلة للحياة في أيّ وقت.
هناك منطقة يعاد تشكيلها انطلاقا من انهيار العراق الذي لم يستطع لملمة أوضاعه بعد العام 2003. ليس أمام الأكراد سوى تجربة حظّهم؛ فالظروف القائمة حاليا قد لا تتكرّر يوما. الأكيد أن ليس رسالة من الأمين العام لجامعة الدول العربية ستجعل مسعود بارزاني يغيّر رأيه. ففي ظلّ الأحداث الكبيرة التي يشهدها الشرق الأوسط، لم يعد من معنى لوحدة الدول. الأمر الوحيد الذي له معنى هو ما يناسب هذا الشعب أو ذاك. لم يعد أمام الشعب الكردي من خيارات اخرى. وليس أمام الأمين العام لجامعة الدول العربية سوى تسجيل موقف، علما أنّ مثل هذا الموقف كان ينبغي أن يصدر في اللحظة التي بدأت فيها مأساة الموصل، وربّما قبل ذلك بكثير، عندما سلمت حكومة نوري المالكي المدينة إلى «داعش» كي يكون هناك تبرير لعملية تدميرها لاحقا.
المستقبل اللبنانية