قد لا يختلف اثنان، بغض النظر عن المنظار الذي يتخذانه لمقاربة أزمة أشقاء الأمس أفرقاء اليوم مع قطر، على كونها أزمة مفتعلة في جوهرها وتمظهرها، وأن الاتهامات التي بُنِيَتْ حبكةُ الأزمةِ على حبائِلها «واهية» حسب توصيف محرر صحيفة الغارديان البريطانية. ولكن ذلك الظن لا يعفي المراقب الحصيف من التنقيب عن الأسباب المضمرة التي كمنت في تلافيف الأزمة، والتي لم تتطرق لها أي من وسائل الإعلام المتسيِّدة بشكل مباشر أو غيره.
وقد يكون أول تلك الأسباب مرتبط بشكل مباشر بمعادلة أسعار النفط وشخص وزير الخارجية الأمريكي ريك تيلرسون الذي ظل يشغل منصب رئيس مجلس إدارة كبرى شركات النفط عالميا إكسون موبيل حتى اللحظة التي انتقل فيها إلى كرسي وزارة الخارجية في مفاجأة فريدة في صراحتها الفجة أظهرها ترامب عبر تسليم شخص كان يناط به وبشركته تصنيع أعضاء مجلس النواب والشيوخ الأمريكيين عبر تمويل حملاتهم الانتخابية، وضمان استمرار عملهم وفق قواعد اللعبة التي يتم برمجتهم سياسيا حسب متطلباتها، عبر تمويل مجموعات الضغط، ومجموعات تشويه السمعة، والحرق السياسي لكل من تسول له نفسه الانزياح قيد أنملة عمّا هو مرسوم له من صانعيه، عبر فضائح على طريقة مونيكا لوينسكي وبيل كلينتون الرئيس الأمريكي السابق، وديفيد بترايوس وعشيقته إبان شغله لمنصب رئيس وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية.
وعلى حدّ تعبير الصحافي الطليعي جلين جرينولد فإنّ اختيار ترامب لشخص تيلرسون لكرسي وزارة الخارجية أظهر بجلاء منقطع النظير بأنّ الحكام الحقيقيين للاقتصاد والمجتمع والسياسة الأمريكية قرروا استلام زمام الأمور بأنفسهم وعدم تركها للوكلاء الذين اعتادوا تفويضهم بلعب أدوارهم بإتقان على طريقة الممثل/ الكومبارس الهوليودي دونالد ريغان الذي أصبح رئيسا للولايات المتحدة وقام بواجبه التمثيلي ككل الرؤساء الذين سبقوه، كما عبر عن ذلك بعظمة لسانه في لحظة مصارحة نادرة لم تتم برمجتها مسبقا لتفادي التفوه بها.
ولزيادة التوضيح فإن أولئك الحكام الحقيقيين الذين أجملهم الرئيس الأمريكي أيزينهاور في العام 1961 بمسمى «المجمّع الصناعي العسكري»، والذي ينطوي راهنا على أقطاب ستة تتوزع بين الشركات المتخصصة بصناعة النفط، وتصنيع السلاح، والأدوية والرعاية الصحية، والتأمين، والتكنولوجيا والاتصالات، والمؤسسات المالية والمصرفية الكبرى، وهي الشركات التي تتنافس فيما بينها لتعزيز حصة كل منها من كعكة استنزاف موارد الكرة الأرضية بكليتها، ومن ضمنها الولايات المتحدة طبعا، دون أن يؤثر ذلك على اتفاقها المضمر فيما بينها على الاتحاد صفا واحدا ضد كل ما يهدد سلطتها وتسيدها في الولايات المتحدة وعلى المستوى الكوني، وهو ما أفرز فيالق من التابعين السياسيين لكل قطب من تلك الأقطاب، فكانت هيلاري كلينتون مثلا ممولة من شركات الأدوية والصحة والتأمين والتكنولوجيا والاتصالات، والمؤسسات المالية التي استرضاها بخبث مريع ترامب بتعيين رموزها في كل المفاصل الحيوية الأمريكية لاحقا، بينما كان ترامب مدعوما بشكل صريح من شركات تصنيع السلاح مثل بوينغ ولوك هيدمارتين، وشركات النفط ممثلة بامبراطورية كوك برذرز.
وعند تلك الملاحظة الأخيرة يحط بنا الجمّال لقراءة دور وزير الخارجية الأمريكي في الأزمة القطرية المفتعلة. ففي العام 2012 حققت شركة إكسون موبيل برئاسة ريك تيلرسون نفسه أرباحا خيالية وصلت إلى 45 مليار دولار حينما كانت أسعار النفط تقارب 100 دولار للبرميل الواحد، وهو ما أدى بالشركة لمقامرة هائلة باستخدام جزء كبير من احتياطياتها المالية في شراء حقوق التنقيب عن النفط الصخري والنفط عالي الوزن في كندا بما أدى إلى أن أصبح ثلث احتياطيات الشركة النفطية متموضعا في حقول النفط الصخري في أراضي ولاية ألبرتا الكندية بحسب الصحافية الكندية المرموقة ناومي كلاين. وهو النفط الصخري الذي يتطلب استخراجه كلفة عالية قد تصل إلى 90 دولارا للبرميل الواحد، بما يعني أنه يشترط من الناحية التقنية بقاء أسعار النفط عند مستوى 100 دولار لبرميل النفط كحد أدنى لكي تستطيع شركة إكسون موبيل تحقيق أرباح من مقامراتها الاستثمارية.
ولكن الرياح التي لم تجر كما يشتهي ريك تيلرسون وشركاه في العام 2014، فأدت إلى انخفاض أسعار النفط إلى أقل من 50 دولارا بسبب إغراق المملكة العربية السعودية أساسا للأسواق كجزء من أدوات الحرب بالوكالة في الساحتين البحرينية والسورية مع روسيا وإيران لإنهاكهما اقتصاديا، بالإضافة لرهاب المملكة العربية السعودية من انتهاء أهميتها الاستراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة إذا أصبحت تلك الأخيرة المنتج الأول للنفط عالميا من نفطها الصخري وحققت اكتفاء ذاتيا واستقلالا عن نفط الشرق الأوسط، بحسب تعبير أوباما نفسه؛ وهو ما ترتب عنه تهاوي أرباح شركة إكسون موبيل بنسبة 80 في المئة إلى أقل من 8 مليارات دولار في العام 2016، وهو ما خلق كارثة لرئيس الشركة آنذاك ووزير الخارجية الأمريكي الراهن، الذي تمكن بقرون استشعاره التي اشرأبت خلال عمله على امتداد أربعة عقود في تلك الشركة، من تلمس أنه لا سبيل أجدى لرفع أسعار النفط عالميا، لتعويض خسائر مقامرات شركته، ومنبع ثروته الشخصية الذي لا ينضب، بعد أن منحته مكافأة ثناء رمزية قبل انتقاله لكرسي وزارة الخارجية بمبلغ متواضع قدره 260 مليون دولار أمريكي فقط؛ من اختلاق أزمة في منطقة الشرق الأوسط وخاصة في الخليج العربي، والأفضل إن كانت سوف تقود إلى حرب تعزز طلبات شراء السلاح الأمريكي، وتعيق إمدادات النفط على المستوى العالمي، فتستدعي ارتفاع أسعار النفط عالميا، كما كان الحال عقب إخراج ليبيا من دائرة إنتاج النفط عقب ثورتها الجهيضة، وهو ما يدخل في تفسير الدور الأمريكي السلبي للحفاظ على حالة الدولة الفاشلة في ليبيا أيضا، وتفكيك شيفرة السعي المحموم لاختلاق الأزمة مع قطر التي لولا وجود القواعد التركية على أرضها لكان واقع الأزمة أكثر دراماتيكية! وهو ما يُؤَوِّلُ أيضا التحشيد العسكري السعودي المضطرد والمبالغ فيه، والحث الأمريكي لحكام المملكة لدق طبول المواجهة المباشرة مع إيران بعد استعصاء تلك الجارية معها بالوكالة بدماء السوريين المقهورين واليمنيين المظلومين.
كل الوقائع المضمرة تشي بأنّه لا خيار لوزير الخارجية الأمريكية بالخروج من جلده الذي تكون تاريخيا، والتنكر لأولياء نعمته المتبرّمين من انتظار وقوع الكارثة التي سوف ترفع أسعار النفط عالميا، وتعيد تصدرهم على عرش أكثر الشركات ربحية في التاريخ الأمريكي المعاصر، وعلى حساب حيوات ومستقبل الشعوب العربية المغلوبة على أمرها.
القدس العربي