لا مال ولا ذهب ولا غاز ولا بترول ولا حتى قواعد عسكرية قد يستخدمها المارينز كما اقتضى الحال في ليبيا، أو ربما في الجزائر. ما يعرضه الأمريكان على تونس مختلف تماما هذه المرة، ولن يكلفها -حسبما يبدو- أي أعباء أو نفقات مالية.
انهم يرغبون منها باختصار شديد أن تقطع ما تبقى من خطوات للمصالحة الفكرية والنفسية مع الصهيونية، وأن تحجب بالكامل كل الأصوات والمواقف والأفكار الرافضة لها، وتقنع شعبها بأن الصهيونية ليست سوى فكرة في سوق الأفكار الحر والمفتوح، وأنه من حق أي كان أن يعتنقها أو يتبناها من دون أن يصبح شيطانا رجيما وعدوا لدودا، وان كل ذلك القدر من الشر والخطورة التي صورها بها خصومها ومناوئها لم يكن سوى ضرب من ضروب معاداة السامية والتجديف غير اللائقين. أما ما يعدونها به في المقابل فهو أن تمنح ديمقراطيتها صك الاعتماد الرسمي الذي يساعدها على تثبيت أقدامها، ويجعلها تحصل على الدعم والرعاية المطلوبين.
قد تقولون ولماذا اختيرت تونس بالذات لتلك المهمة؟ وهل أن أمريكا التي لم نعد نسمع عنها سوى جشع رئيسها وولعه المفرط بجباية المال العربي، مهتمة حقا بتغيير العقول والأفكار وكسر الحاجز النفسي السميك بين الشعوب العربية والإسرائيليين؟ والجواب هو أن الرمزية التي حصلت عليها تونس باعتبارها مهد الثورات العربية والبلد الذي ظل يفاخر بأنه الأكثر تعليما وانفتاحا وقربا من أوروبا، وبعدا عن الانغلاق والتعصب الشرقي، هي التي جعلتها مرشحة اكثر من غيرها لأن تكون المنصة المثلى للتطبيع النفسي والثقافي مع ما كان يوصف حتى وقت قريب في وسائل الإعلام المحلية بالكيان الصهيوني».
وهذا التطبيع بالذات هو الهدف الاستراتيجي الأكبر لا لإسرائيل وحدها، بل لأمريكا أيضا، باعتبار المكاسب العظيمة التي ستجنيها من وراء تحقيقه. قطعا لم يفكر به الأمريكان الآن فقط، ولا سعوا قبل وقت قصير لتحقيقه ولكن تزامن ظهور ما سمي لائحة اقتراحات قدمها أعضاء في الكونغرس الأمريكي لرئيس الحكومة التونسية عند زيارته الأسبوع الماضي واشنطن، كان ابرز ما فيها بندا وصف بـ»المستعجل» يحث فيه النواب تونس على «ضرورة الوقوف ضد كل الإجراءات والقرارات التي تمس مصالح إسرائيل أو تستهدفها في منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة «اليونسكو»، وفي كل المنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة»، مع ما يستجد حاليا من تطورات في الخليج ومع ما يروج معها عن وجود اتصالات متقدمة بين إسرائيل وبعض الدول الخليجية، هو ما جعل الأمر شديد الأهمية. فما يعرفه الأمريكان بالتأكيد هو أن طريق الألف ميل تبدأ بخطوة.
والخطوة الأولى والاهم بنظرهم هي أن تنأى تونس بنفسها تماما ونهائيا عما يجري في تلك المنطقة الملتهبة من العالم، وان تهتم أولا وأخيرا ببيتها الداخلي فقط. انهم لا يقولون لها بالطبع بصراحة وبالمكشوف أن ذلك شرط ضروري لابد منه لاستمرار المساعدة الأمريكية، التي وعد ترامب بتقليصها العام المقبل، بل يرسلون فقط إشارات قوية لا تخطؤها العين على انه لابد للتونسيين من أن يفكروا مليا ببلدهم، وان يضعوا مصالحهم قبل أي اعتبار آخر، وأن ينظروا للأمور بمنطق براغماتي صرف ويتخلوا عن العواطف والمشاعر والمبادئ التي لن تغنيهم أو تطعمهم من جوع.
وهنا قد يرد البعض بأن كل ذلك ليس سوى استنتاج متحامل، فيه الكثير من المبالغة والتجني. وان ما اقترحه بعض أعضاء الكونغرس لا يعكس بالضرورة موقف الإدارة الأمريكية أو وجهة نظرها، وأن رئيس الحكومة التونسية، قال من جانبه في إحدى الإذاعات المحلية بأن تونس «غير معنية» بذلك البند بالذات من لائحة المقترحات المذكورة. ولكن هل كنتم تتصورون أن يخرج ترامب أو وزير خارجيته ليعلن على الملأ بأن الصهيونية في كفة وديمقراطية تونس في الكفة المقابلة؟ وهل كنتم تتوقعون أن يظهر مسؤول رسمي تونسي في هذا الوقت بالذات ليقول بالفم مليان ومن دون لف ولا دوران «نعم لقد قالوا لنا طبعوا مع إسرائيل نطبع معكم، ونمنحكم كل ما تحتاجونه من مال وأمن واستقرار ورفاه؟».
أليس الأفضل والأسلم للجميع أن تتم العملية بسلاسة وبعيدا عن التعقيدات الرسمية؟
إن ما يعرضه الأمريكان على تونس يتعدى انتزاع موقف سياسي رسمي، يعلمون مسبقا انه سيرتبط في الأخير بالموقف الجماعي العربي. إنهم يطلبون منها أكثر من كامب ديفيد ووادي عربة وشرم الشيخ، التي لم تنتج تطبيعا نفسيا وثقافيا مع الصهيونية، وخلفت بالمقابل «سلاما» ساكنا وباردا لإسرائيل مع مصر والأردن، لم يجعل الشعوب العربية تبدل نظرتها التقليدية إلى ما ظل يعتبر العدو التاريخي للامة.
ولكن قبل الوصول إلى ذلك اليوم الذي سيقف فيه مندوب تونس في اليونيسكو رافضا التصويت على أي قرار يمس إسرائيل أو يسيء لها، فإنها ستجتاز سلسلة اختبارات صعبة. قد يكون اختبار اليوم أي التاسع عشر من الشهر الجاري واحدا من أكثرها حساسية ودلالة. فالليلة بالذات يصعد وفق البرنامج الذي سطره المشرفون على مهرجان قرطاج على ركح المسرح الأثري كوميدي صهيوني معروف هو ميشيل بوجناح.
ولتفهموا أبعاد الحفل، يكفي أن تقرأوا بعض فقرات البيان الذي أصدرته وزارة الثقافة في أعقاب الضجة التي حصلت عند الإعلان عن العرض. فبعد التذكير بالثورة التي حصلت في تونس، خلص البيان إلى أنها أي الوزارة «لا تتدخل في المضامين والمحتويات التي يتفق حولها أعضاء الهيئات والجمعيات المديرة للمهرجانات والتظاهرات» تقيدا بقيم الدستور، ثم أشار بشكل سريع إلى أن « مناصرة القضية الفلسطينية من ثوابت السياسة التونسية، بما فيها الثقافية»، قبل أن يؤكد في الأخير على انه «اعتبارا لحساسية الموضوع واتخاذه مسارا سياسيا خرج عن سياقه الثقافي، فإن الوزارة ستقوم بالمشاورات المتصلة مع الأطراف ذات العلاقة، في نطاق التشاور والتشاركية في اخذ القرار، انسجاما مع المصلحة الوطنية العليا التي تعلو فوق كل اعتبار».
إن ما يعنيه ذلك ببساطة هو انه لم تعد هناك لا مبادئ ولا ثوابت ولا قيم ولا عدو يسمى الصهيونية، وان كل شيء بات مفتوحا للمراجعة وقابلا للأخذ والرد من باب ما تكفله ديمقراطية تونس من حقوق وحريات واسعة وعريضة. والكلمة التي سيغطى بها كل ذلك في الأخير هي المصلحة الوطنية. لقد قال مدير مهرجان قرطاج في تصريح إعلامي إنه «لا يمكن التراجع عن العرض، لأن الأمر بات يتعلق بهيبة الدولة ومصيرها، حيث لا يمكن التلاعب بمصير السياحة التونسية ومقاطعة السياح لبلادنا في صورة إلغاء العرض». مضيفا أن «تونس في موقع ضعف حاليا ومن الضروري أن يتفهم الجميع هذه المرحلة».
وما سيقوله التونسيون الليلة هو إن كانوا سيقبلون بالعرض الأمريكي بأن يكون التصالح مع الصهيونية هو مفتاح النجاح لديمقراطيتهم أم لا؟ ومهما كان جوابهم فانه سيعني الكثير لمن يرسمون على الورق في واشنطن وغيرها خرائط المنطقة ومصائر الشعوب.
القدس العربي