مقالات مختارة

حظر وسائل الإعلام في مصر.. جسارة أهل الجهل

1300x600
ما لم تجد مصر طريقة لإقفال الإنترنت تماما، سيظل حظر المواقع الإخبارية على الإنترنت أمرا نظريا يحتمل أن يكون له من الأضرار أكثر مما له من الفوائد.
 
 في خطوة غير مسبوقة، أقرت الحكومة المصرية بشكل رسمي أنها تحظر واحدا وعشرين موقعا على الإنترنت؛ بحجة أنها تنشر محتوى "يدعم الإرهاب والتطرف كما تنشر الأكاذيب كذلك".
 
لم يكن الإجراء نفسه مفاجئا. فهذه المزاعم ذاتها رُشق بها عشرات الآلاف من النشطاء والنقاد، يقبعون في السجون منذ شهور، وبعضهم منذ سنين، وقد حيل بينهم وبين الإجراءات القضائية النزيهة المتعارف عليها. 
 
يعدّ اعتراف الحكومة وافتخارها بأنها اتخذت إجراءات فعلية لتقييد وسائل الإعلام تصعيدا بارزا في الحرب التي يشنها على الصحافة النظام العسكري الدكتاتوري الحالي. 
 
لم تنشر القائمة كاملة، إلا أن وكالة أنباء الشرق الأوسط الرسمية قالت إن القائمة تشتمل على قناة الجزيرة القطرية، والتي تملكها جزئيا العائلة الحاكمة في قطر. 
 
وكانت قناة الجزيرة صنفت على أنها عدو للدولة منذ انقلاب عام 2013، الذي أطاح بالرئيس محمد مرسي، الرئيس الإسلامي الذي لم تشهد مصر انتخاب غيره رئيسا لها بشكل ديمقراطي، والذي حظيت رئاسته لمصر بدعم ومساندة دولة قطر. كما شمل الحظر كلا من المواقع التالية: الشرق، ومصر العربية، والشعب، وعربي 21، وحماس أونلاين. 
 
 
الدولة إذ تنشئ شبكة من الألغام المفخخة
 
على الرغم من أن كون الموقع إسلاميا لا يبرر بحال حظره طالما أنه لا يحرض على العنف، إلا أن هذه المواقع لم تكن الوحيدة التي نالها الحظر. 
 
من المواقع التي حظرت أيضا "مدى مصر"، وهو موقع مستقل مسجل محليا ينشر تقاريره باللغتين الإنجليزية والعربية، وقد حظر على الرغم من أنه لا توجد له أي ارتباطات بجماعة الإخوان المسلمين المحظورة ولا يبدي تعاطفا معها. إلا أنه بمنطلقاته العلمانية ومواقفه التي تميل نحو اليسار يصدح بالنقد في وجه الإدارة الحالية. 
 
لم تتلق لينا عطا الله، محررة الموقع، أي أمر قضائي أو إداري مسبق. ولقد قالت في تصريح لوكالة رويترز إن "الحظر" أثبت أن لدى السلطات نية واضحة "بقمع وسائل الإعلام الناقدة بأساليب تتجاوز القانون". 
 
رغم أن هذا الكلام صحيح جزئيا إلا أن ثمة استراتيجية أكثر خبثا لم تزل قيد التطبيق منذ الانقلاب العسكري في عام 2013. 
 
لقد عملت الدولة خلال السنوات القليلة الماضية على إنشاء شبكة خاصة بها من الألغام المفخخة قانونيا وإداريا لإسكات المعارضين وترهيب الناقدين. 
 
بإمكان الحكومة منع الوصول إلى مواقع الإنترنت بطريقة قانونية بموجب أمر من المدعي العام أو قاضي التحقيق أو بأمر من الرئيس في حالة الطوارئ، كما تم الإعلان عنه في التاسع من أبريل / نيسان بعد الهجوم الغاشم الذي تعرض له احتفال للمسيحيين الأقباط في ذكرى عيد الفصح. 
 
من المفارقات العجيبة أن هجوما آخر وقع بعد فرض الحظر بأيام، واستهدف هذه المرة حافلة محملة بالأطفال الذين كانوا في طريقهم لزيارة أحد الأديرة. والسؤال الذي يطرح الآن هو كيف كان يمكن لحظر مواقع الإنترنت إنقاذ حياة هؤلاء الأبرياء؟
 
بالإضافة إلى ذلك، هناك المادة 29 من التشريع المثير للخلاف والخاص بمكافحة الإرهاب – وهي بالمناسبة مادة أخفقت إخفاقا ذريعا، حسبما تثبت الإحصائيات، في مكافحة الإرهاب أو وضع حد له. تنص هذه المادة على الحكم بالسجن خمسة أعوام على كل من "يقيم اتصالات أو مواقع إنترنت لنشر الأفكار والمعتقدات التي تشجع على ارتكاب الأعمال الإرهابية أو نشر (المعلومات) لتضليل أجهزة الأمن أو التأثير على مجرى العدالة بشأن جريمة ما من جرائم الإرهاب."
 
اتصال من "المراقب"
 
طالما ميزت مثل هذه العبارات المطاطة التعامل غير الأخلاقي للحكومة المصرية مع منتقديها ومعارضيها، وهي حالة كثرا ما دخلت في عراك معها عندما كنت رئيسة للتحرير. 
 
كنت أرأس تحرير صحيفة ديلي نيوز إيجيبت في الفترة من 2006 إلى 2012. وكان موضوع السجل المشين لحرية التعبير في البلاد يحتل بشكل شبه دائم الصفحة الأولى للصحيفة. أما من وراء الكواليس، فقد غدا في نهاية المطاف جزءا من برنامجي اليومي تقريبا احتساء كوب من الشاي مع رئيس سلطة الرقابة على المطبوعات، والذي يشتمل مسماه الوظيفي على إشارة غامضة إلى "تنظيم المواد المطبوعة باللغات الأجنبية". 
 
ثم تطور الأمر، وصار يشتمل على تلقي مكالمة هاتفية من "مراقب" رسمي، وكان ذلك سيدة لطيفة كلفت بمهمة الاتصال بي الساعة الخامسة من مساء كل يوم؛ للحصول على قائمة بعناوين الصفحة الأولى، وكانت تثق بما أقوله لها وتكتفي به. 
 
بعد أشهر قليلة، تراجعت وتيرة الاتصالات الهاتفية، إلا أن إشعارا أو إنذارا من أحد الهيئات العليا كان كفيلا بإعادتها إلى برنامجي اليومي، ويصاحب ذلك العودة إلى كوب الشاي والتهديد بسحب الصحيفة من أماكن بيعها. 
 
كان ذلك في حينه ينذر بكارثة، فالصحيفة تعتمد بشكل كلي على نشر الإعلانات وعلى الاشتراكات، وكلاهما يتهددان فيما لو حيل بين الصحيفة وتوزيعها. 
 
كانت صحيفة ديلي نيوز إيجيبت مطبوعة إنجليزية محدودة التوزيع نسبيا، إلا أن رقصة الموت الصعبة هذه أضحت شعيرة لا مفر منها؛ لكي يتمكن أي مشروع صحفي من التواجد في مصر ما قبل عام 2011. برغم ما كان لدينا من متابعين وقراء يعدون بعشرات الآلاف عبر الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، إلا أن مسؤولي الرقابة لم يكونوا مهتمين نسبيا بما يدور في عالم الإنترنت. 
 
نعم، كنا نشعر بعدم الارتياح عندما كان ضباط أمن الدولة يطرقون باب مكتبنا ليسألوا عن عناوين مراسلينا، ولكن عندما أنظر إلى الوراء أتحسر على الأيام القديمة الجميلة، على الأقل كان لجنونهم أسلوب، وكانت الخطوط الحمراء واضحة المعالم، وكنا نعرف متى بإمكاننا أن نتجاوزها، وكنا نعرف كيف نجد طريقنا عبر غابة المؤسسة الرسمية الكئيبة المحفوفة بالمخاطر والتي كان كل هدفها حماية رجل واحد وأفراد عائلته. 
 
الطبيعة دوما تجد سبيلا
 
لا توجد اليوم حدود. تماما على النمط الأورويلي لا تنضح وزارة الحقيقة إلا بالكذب. لقد قلبت مصر السيسي الواقع رأسا على عقب؛ وبذلك أوجدت الظروف الملائمة للإرهاب والمبررات اللازمة لمحاربته دونما اعتبار لحقوق الإنسان أو الحريات المدنية. 
 
لقد استشرى الأمر لدرجة أن غالبية المصريين لم تعد تفاجئهم أو تزعجهم هذه الخطوة، بل ربما يبادرون إلى دعمها. 
 
ولم لا يكون هذا هو الحال إذا كان مسؤول كبير في سلطة الرقابة على الاتصالات يصرح ردا على سؤال بشأن الحظر: "وماذا لو كان ذلك صحيحا؟ ينبغي ألّا يسبب ذلك مشكلة."
 
إن الصورة السريالية التي ترد إلى الذهن هي صورة السيسي والملك السعودي سلمان والرئيس الأمريكي دونالد ترامب وهم يضعون أيديهم على الكرة المضيئة أثناء تدشين المركز العالمي لمكافحة التطرف الذي أقامته المملكة العربية السعودية. 
 
لن تغيب المفارقة المضحكة المبكية في اجتماع هؤلاء الثلاثة ليطلقوا "منظمة تكرس لرصد الدعاية التي تصدرها داعش والقاعدة ومن على شاكلتهما" إلا عمن لا فكرة لديه عما لهؤلاء الرجال الثلاثة من علاقة كارثية بوسائل الإعلام، وما يلعبونه من أدوار في تغذية التطرف. 
 
لم يكن من المصادفة أن يأتي الإعلان عن فرض الحظر على مواقع الإنترنت في مصر بعد أيام قليلة من ذلك الاجتماع، وكما هو معهود في الحالة المصرية، تجاوز الإجراء ما كان محددا له من أهداف. لا تقتصر المشكلة في حظر المواقع الإعلامية الليبرالية مثل "مدى مصر" على كونه إجراء خجولا في أحسن أحواله ومناقضا للبديهة في أسوأ أحواله. 
 
مجرد التفكير في حظر موقع على الإنترنت في هذا اليوم وفي هذا الزمن إنما يعكس الجهل المدقع لرئيس دولة في غاية الغرور ما زال يعيش في الزمن الناصري البائد، حيث كانت تسود نظريات التحكم بفكر الناس وتقييد حرياتهم في التعبير. في أسوأ الأحوال، سوف تلجأ المواقع التي تم حجبها إلى نشر محتوياتها على الفيسبوك. 
 
ولذلك، مالم تجد مصر طريقة لإغلاق الإنترنت تماما، ستكون كل هذه الأعمال المسرحية قصيرة الأجل، وسينجم عنها من الضرر أكثر بكثير مما يرجى منها من الخير. لقد بينت أحداث عام 2011 للنظام ما الذي يحدث عندما يعمد إلى حجب وسائل التواصل. الطبيعة دوما تجد سبيلا. 

عن "ميدل إيست آي" ترجمة "عربي21".
الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع