أصدرت "مجموعة الأزمات الدولية" تقريرا منذ أسبوع عنوانه "الانتقال المعطل: الفساد والجهوية في تونس". التقرير الذي استغرقت كتابته أشهرا يرصد بدقة وعمق الوضع في تونس من زاوية متشائمة؛ إذ يؤكد أهمية التفاهمات التي تمت لتمرير "توافق" هش والحفاظ على الحد الأدنى الديمقراطي في تونس، فهو أيضا يشير بوضوح إلى حقل الألغام الذي رافق هذه التفاهمات، التي تمت أساسا بين القوى التي ورثت المنظومة القديمة برئاسة قائد السبسي والتيار الإسلامي الأبرز حركة النهضة، بقيادة راشد الغنوشي.
المسألة الأساسية في هذا التقرير التي تستوجب التأمل هي: هل الوصفة التي أنقذت ظاهريا الديمقراطية أي "التوافق"، هي التي تفرز الآن السم الذي يقتلها ببطء، أي مأسسة الفساد وانتشاره تحت غطاء ديمقراطي؟ وأن لن يترك ذلك ندوبا عميقة على فكرة الديمقراطية في المجال العربي الوحيد الذي عرفت فيه بعض النجاح؟ ومن ثمة إمكانية قبرها إلى أجل غير معلوم؟
وأشار التقرير في أحد مفاصله الأساسية إلى "أن الإجماع السياسي القائم منذ الانتخابات البرلمانية والرئاسية في أواخر العام 2014، قد استقر في السياسة التونسية ولكنه بدأ في الوصول إلى حدوده. وعلى الرغم من تشكيل حكومة وحدة وطنية تضم الأحزاب السياسية الرئيسية، تعاني البلاد من إحساس متزايد بالاستبعاد الاجتماعي والإقليمي وإضعاف سلطة الدولة، التي يغذيها انتشار الفساد والمحسوبية. وسيتطلب استمرار التحول الديمقراطي وتحقيق الانتعاش الاقتصادي توافق الآراء، هذا إلى ما هو أبعد من الترتيبات الحالية بين القادة السياسيين وقادة النقابات، وهذا يتطلب أيضا مقاربة جريئة وجديدة تستقطب الشخصيات الأكثر تأثيرا في عالم الأعمال، بمن فيهم الذين ينحدرون من المناطق المهمّشة الذين يحصلون على سلطات غامضة في الحياة السياسية والاجتماعية."
وأفاد التقرير الذي أعدته "الأزمات الدولية" بعد لقاءات مع أكثر من 200 شخصية من الفاعلين الاقتصاديين والسياسيين والنقابيين وغيرهم، أن مجلس نواب الشعب أصبح مركز التقاء لشبكات سمسرة وأفاريات، وأن بعض النواب أصبحوا مختصين في هذا المجال .
وأشارت المنظمة إلى أن تونس باتت تعيش في ظل "منظومة مافيوزية" وأن الفساد بلغ مستويات خطيرة، خصوصا في وزارة الداخلية والديوانة والقضاء، وأن "رجال الظل" يحركون خيوط اللعبة في الكواليس للدفاع عن مصالحهم الاقتصادية ويؤثرون في الإعلام والسياسية على حد سواء. وأضافت أن التأثير المتنامي لرجال الظل في المؤسسات العمومية، شلّ جزءا كبيرا من الإصلاحات فيها.
وأكد التقرير أنه في الوقت الذي تشهد فيه التوازنات الاقتصادية انخراما ملحوظا، فإن الاستقطاب ما فتئ يقوى في عالم الأعمال بين رؤساء المؤسسات، ولكن أيضا بينهم وبين بارونات الاقتصاد الموازي وأهمّهم المهرّبون . فمن جهة نجد نخبة اقتصادية تنتمي إلى جهة الساحل وإلى بعض المدن الكبرى مبجّلة ومحميّة بواسطة ترسانة من التشريعات، وتأمل أن تبقى ببقاء الحال على ما هو عليه، نجد من جهة أخرى طبقة جديدة من رجال الأعمال برزت من المناطق المهمّشة، بعضهم تخصص في التجارة الموازية ويساند جزئيا الاحتجاجات العنيفة ضد السلطة، وهو يأمل أن يجد لنفسه مكانا بين النخبة الموجودة أو حتى تعويضها.
وأوضح التقرير في هذا الشأن أن المهربين بالمناطق الحدودية مع ليبيا والجزائر بنوا بعد الثورة ثروات طائلة بمليارات الدولارات، وأنهم يريدون اليوم مكانة وحظوة سياسية واقتصادية مثل تلك التي يحظى بها "رجال أعمال النخبة" في الساحل والعاصمة تونس، الذين يعطلون إقامة مشاريع تنموية بالمناطق الداخلية حتى لا تؤثر على مشاريعهم ومصالحهم.
وبناء على هذا الصراع العميق، أصبح التنافس الاقتصادي والسياسي متعفّنا؛ إذ يهدف هذا الصراع إلى الاستئثار بالمناصب الحساسة، والأولى في الإدارة بما يسمح بالتحكم ومراقبة النفاذ إلى التمويل البنكي وإلى الاقتصاد الرسمي. ويساهم هذا الصراع في توسيع و "دمقرطة" الفساد وإصابة الإصلاحات بالشلل. وهذا يؤجج اللاعدالة بين الجهات التي تغذّي بدورها التفرقة بين مواطني المناطق المهمّشة، وقد أصبحت ممكنة في ظل التصرف العشوائي للمسؤولين الإداريين وانغلاق النظام البنكي وجموده.
وفي الوقت الذي رفعت فيه حكومة يوسف الشاهد شعار مقاومة الفساد وإعادة دوران عجلة الاقتصاد، وجدت الحكومة نفسها بصفة "منهجيّة" معطّلة منذ الانطلاق؛ فالإصلاحات التي تقترحها الحكومة يصعب تحقيقها في غياب مبادرة سياسية تهدف إلى "تحجيم" السلطة الغامضة لهؤلاء الفاعلين.
ولئن بدت العديد من الإجراءات التي أعلنت عنها الحكومة مهمّة ولقيت سندا لدى شركاء تونس الدوليين، فإن العديد من الإجراءات الأخرى يجب أن تكون ذات أولوية من أجل تحسين الوعي العام وحماية الدولة من شبكات المحسوبية والتوجّه مباشرة إلى ضرب منابع الإقصاء الاجتماعي الجهوي، وهو عنصر سلبي ومقلق على المدى المتوسّط بالنسبة إلى استقرار البلاد.
ومن التوصيات المذكورة في التقرير أنه ينبغي على الحكومة أن توفر للسلطة الوطنية لمكافحة الفساد موارد بشرية ومالية كافية لتنفيذ استراتيجيتها، وعلى البرلمان أن يقلل من السلطة التقديرية التي يتمتع بها المسؤولون الإداريون - وهو ما يعزز الزبونية والفساد الذي يتحمل جزئيا المسؤولية عن عدم حصول أصحاب المشاريع من المناطق المهمشة على الائتمان من البنوك والأسواق- من خلال تبسيط الإجراءات الإدارية في المجال الاقتصادي وإزالة الأحكام القانونية القمعية المفرطة، التي تنطوي على أحكام بالسجن. وينبغي على الحكومة والبرلمان، بناء على القانون القائم، أن يطلبا من الأحزاب السياسية تقديم تقاريرها المالية السنوية إلى دائرة المحاسبات، وأن توسع متطلبات الكشف المالي المطبقة بالفعل على وزراء الحكومة وكبار الموظفين المدنيين على البرلمانيين وموظفي الرئاسة من أجل إضعاف الشبكات الزبائنية.
تقرير "الأزمات الدولية" مجرد مؤشر آخر إلى أن العين الدولية التي تنظر إلى تونس من بعيد، ولكن بكثير من التدقيق، لا تبدو مرتاحة لما يجري. وآخر مؤشرات ذلك ما تسرب من لقاء وفد صندوق النقد الدولي إلى رئاسة الجمهورية في تونس، حول تحذيرهم من تمرير القانون الذي بادر به الرئيس السبسي حول "المصالحة الاقتصادية"، واعتبروا أنه لا يوفر مناخ استثمار متساويا، من خلال شطب الديون المتخلدة لدى رجال اعمال المنظومة القديمة التي ساهمت في إفلاس بنوك عمومية أساسية.