كثرة القراءات والتفسيرات (أو محاولتهما) لقرار «حزب الله» تفكيك مواقعه العسكرية في الجرود الشرقية المحاذية للحدود السورية، لا تلغي اليقين القائل بأنّ القرار المذكور انهزامي وليس انتصاريا، وأنّ كثرة التبرير لا تبرّر شيئا غير ذلك، في واقع الحال.
في عالم السياسة هناك مصطلح فخم آت من عالم العسكر: التراجع خطوة إلى الوراء من أجل التقدم خطوتين إلى الأمام.. لكن في حالة «حزب الله» مع النكبة السورية، وفي حالة إيران مع طموحاتها العابرة فوق حدودها وقدراتها وإمكاناتها، هناك سياق مركزي واحد يكاد أن يكون مقطوع الصلة بالسياسة والعسكر، ولا يتصل سوى بيقينيات ذاتية مربوطة دائما بأبعاد فوق بشرية، ولا «يعرفها» إلا أصحابها!
.وهذه في جملتها أنتجت بعض فظاعات الواقع العربي والإسلامي الراهن!
«انسحب» «حزب الله» من بعض مواقعه التماسيّة مع النكبة السورية، لكنّه لا ينتبه (أو لا يأبه!) إلى حقيقة أنّه خسر جلّ سوريا وأهلها! ومنذ أول هجمة موضعية له فيها، انكسرت معظم «مواقعه» في الوجدان السوري والعربي والإسلامي العام! ومنذ أن تغيّرت وجهة قتاله و«مقاومته» تغيّر وجهه وطبيعته ومعناه. وأدخل نفسه بنفسه في زاوية انقسامية حادّة، بعد أن كان موضع شبه إجماع!
يحكي عن جغرافيا قتالية نزالية حادة وضيّقة، ويتجاهل التاريخ العريض والديموغرافيا الأعرض! يُقفل جبهة خارجية «صغيرة» (مع إسرائيل) بأبعاد أسطورية عربية وإسلامية، ويفتح جبهات داخلية كبيرة بأبعاد كارثية في الدين والضمير ومقاييس الحق والجور والحلال والحرام.. وليس مصطلح الفتنة سوى أحد تعابيرها. وهو في كل حال، مكسور فيها مهما راكم وادّعى من «انتصارات»! وهذا حُكمٌ يستند إلى نصّ لا يختلف عليه «فقهاء الأمة»! ولا تخفف من وطأته (وسطوته) فتاوى حديثة، طالما أنّ الإجماع عليه قائم ومنذ أيام السلف الصالح!
انسحب من بعض مواقعه، لكن في الحقيقة يبدو كأنه ينسحب من بعض مواقفه، وهو الذي راح فيها بعيدا: عندما وضع أكثريّة السوريين في خانة «التكفير والإرهاب». ثم عندما ظنّ أنّ الانتصار في معركة يعني انتصارا في الحرب. ثمَّ عندما أخذه الغرور إلى إدعاءات عفّ عنها من هو أقوى منه وأقدر وأخطر! ثم عندما تشاطر مثل الهواة أمام محترفين «دوليين»! وظنّ في نفسه قدرة على الحسم أو «تغيير الخرائط» أو المس بمصالح استراتيجية إقليمية ودولية، فإذ به «يكتشف» أنّ سقفه هو الاستنزاف البشري والقيمي، وعند أول انعطافة كبيرة في الميدان لمصلحته هو وإيران، سيوضع على المقصلة هو وإيران معا! وأنّ الثوب الذي لبِسه بعنوان «محاربة الإرهاب» لن يستر عند القوى الكبرى اتهامه بأنه جزء (أصيل!) من ذلك «الإرهاب»!
مجرّد الإعلان عن انسحاب وسط معركة لم تنتهِ مع «الإرهاب التكفيري»، واستباقا لسيناريوهات معركة لم تبدأ بعد مع قرار لجم إيران وأدواتها، يعني تغييرا لن يتوقف عند جرود البقاع الشمالي، مهما قيل العكس!.. والله أعلم.
المستقبل اللبنانية